بَّا دريس، انهض فنحن ننتظر

بَّا دريس، انهض فنحن ننتظر

الأديب المغربي إدريسالخوري، المرعب بكتاباته الأدبية وحياته المتحررة من ضغوطات الأخلاق والمرجعيات المصطنعة، يعيش وحيدا، منعزلا في بيته، يعاني من وطأة السنين والمرض، إليه أخط هذا النص المنفلت من الرقابة الذاتية المعتمد على إحساس خاص بالحب والمودة والصدق ...

با دريس، انهض فنحن ننتظر ..

النهاية لن تكون بهذه السهولة يا با دريس، أعرف أن لك قوة الحديد وشموخ الجبال وإرادة الحياة الحقة المنسلخة عن أتون النظام المزين بتخاريف الوقت واللون الفاقع وأكاذيب أصحاب الياقات المزركشة والحسابات البنكية المنتفخة.. أنت كما عهدناك أنت، ضاحك وغاضب في نفس الآن، خاسر المزاج في وقت ومعانق لمباهج الحياة إلى حد الانتحار في أغلب الأحيان.. كلما رأيتك، هناك في الحانات المؤثثة بأصحاب الغش في الصب وتبديل الكؤوس والهروب لحظة أداء الحساب، في الأماكن المنعدمة الجمال، اللهم جمال النشوة المقتطعة من قبح الوقت والرؤوس الدائخة هربا من إكراهات المجتمع ومتطلبات الحياة.. كلما رأيتك قادما متقافزا كقط يستعد للانقضاض على فريسة، أو رأيتك جالسا كنبيل خارج للتو من الروايات الأدبية الخالدة.. أتذكر من خلالك، زوربا اليوناني في لحظات نشوته، والمتشائل سعيد أبي النحس في بلاهته، ومارسو ألبير كامي في غربته ووجوديته القاتلة، ومرزوق عبد الرحمان منيف في اندفاعه وتمرده.. بل أتذكر فيك كل من رحلوا من قمم الإبداع المغربي.. أنت زفزاف وشكري والصباغ والمجاطي أدبا وعذوبة.. وفي نفس الآن، أنت المرحوم سلطان باليما والمخرج منخار والممثل الصناك والناقد العلواني.. أنت جمع في ذات واحدة، تحايلا على مصاعب الحياة، ومواجها لقرفها بسكرات (ج سكرة، وهي غير سكرة الموت) تاريخية لا تبقي ولا تذر.. سكرات لا منقطعة في حانة ماكس ونادي الكرة الحديدية وماشوميير وروبيش..، هنا وهناك، بين الرباط والدار البيضاء وطنجة وغيرها من المدن المغربية التي ألفت طلعتك البهية، بل أنت الناس جميعا، فرادى وجماعات، أنا وهو وهم، كل واحد منا قادر على أن يجد نفسه فيك، أن يتوحد مع تمردك وعنفك وعدوانية عباراتك، عندما تثقل الخمرة لسانك ويستفز هدوءك، قليلي الحياء والزمرة المتملقة.. أنت الباقي بيننا رغم أنف الزمن وزحف سنوات العمر وتطفل نصف الكتبة على هدوء الليل البريء من مواهبهم الأدبية المنعدمة، وجلسات الخمر في الحانات الحقيرة، والأوراق البيضاء العذراء في المكاتب الإدارية المتسخة.. ألمك وحزنك الموجود اليوم، في الرأس والقلب، أصبح ألمنا وحزننا ووجعنا الذي لا يرحم.. لقد عشت ما عشت من سنوات العمر بالطول والعرض.. أما نحن فلم نعش ربع ما عشت ولا احتفينا بمباهج الحياة مثل ما احتفيت.. ما زلنا بحاجة كي نتعلم منك معنى الوجود والعدم، معنى الحب واللاحب، معنى أن نكون بشرا مثلك بالليل والنهار، في الصيف والشتاء، في الفقر والغنى، في الحزن والفرح، لا كتلة لحمية فانية، تنتظر موتها الحتمي ورقدتها الأبدية، مثلما تحن لجناتها الموعودة، جنات معششة في العقول والنفوس الدنيوية الأمية البائسة .....

فانهض يا أبا ادريس، لأن جموع السكارى وعشاق الليل وقراء الأدب ومحبي التخاريف والهزل، تنتظر عودتك سالما معافى.. فأنهض، نحن ننتظر ...