من حسنات الانتخابات الجماعية الأخيرة أنها أدخلت المغرب إلى «العصر الدارويني» لأن من مقومات العصر الدارويني أن الأحزاب المهيأة جيداً هي التي ستكتب لها الحياة وستدوم في السوق السياسي.
فالسوق لم يعد مجالا للأخلاقيات بقدر ما يخضع لقانون متسام وانتقائي يصفي البشر والزعماء والأحزاب والمنتخبين مثلما تفعل الطبيعة التي تنتقي أجود الكائنات وتزيل غير الجيد منها.
الدليل على ذلك أن الأحزاب التي تدعي أنها «وريثة العمل الوطني» ضد الاستعمار وضد الاستبداد في عهد سنوات الرصاص استكانت إلى ماضيها متوهمة أن «الشرعية التاريخية» مثل الإيمان بالله، تولد بالفطرة مع المواطن المغربي، والحال أن التجربة بينت أن ورثة «الشرعية التاريخية» تمسكوا بأصل ثجاري فقد كل قيمته في السوق السياسي الحالي.
أما الأحزاب التي ولدت من رحم الإدارة وسخرت لها الإمكانيات والموارد فلم تتمكن من التخلص من عقدة البصري، علما أن البصري مات وماتت معه سياسته، ولم تقو هذه الأحزاب على اكتساب شرعية مجتمعية جديدة رغم مرور 14 سنة على وفاة البصري.
وفي كلتا الحالتين بدا أن الأحزاب من الفئتين معاً لم تستوعب التحولات التي عرفها المغرب في العقود الثلاثة الأخيرة، وأبرزها أن ثلثي سكان المغرب ولدوا في هذه العقود الثلاثة بمطالب جديدة وانتظارات مغايرة وبأحلام مختلفة. ولم تقو هذه الأحزاب مجتمعة على حشد 10 آلاف فرد في تجمع جماهيري (نتوفر على 35 حزباً مرخصاً له بالمغرب) في الوقت الذي يحشد فيه الشاب بلال أو الفنان عبد العزيز الستاتي لوحده 250 ألف شخص في سهرة واحدة بالدار البيضاء (مثلا السهرة التي أقامها بسوق الغنم بالبرنوصي أو تلك التي أقامها بحي النهضة بالرباط وحضرها 70 ألف فرد).
وحده حزب العدالة والثنمية الذي اصطفاه «القانون الدارويني» وأدخله في خانة أجود الأحزاب (نقصد بالجودة: آلية الاشتغال والدينامية المؤسساتية، ولا نقصد بها المعنى القيمي، فالمجتمع يضم مللاً ونحلاً متعددة). وهنا مكمن الخطر على البلاد والعباد، حيث لا تفصلنا عن محطة 2016، تاريخ تنظيم الإنتخابات البرلمانية، سوى بضعة أشهر، وإن لم تنهض الأحزاب "الوطنية" (اليسارية منها والمحافظة) من سباتها فالتاريخ سيسجل في عام2016 ليس الهيمنة المطلقة لحزب واحد (حزب المصباح) فقط، بل وستشهد تلك السنة الردمة النهائية للأحزاب المعنية.
وبما أن الطبيعة تأبى الفراغ، فإننا لن نشهد ميلاد قوة من حجم "بوديموس" لغياب شروطها، بل وسيتحول المغرب إلى أكبر مصنع في العالم لإنتاج التشدد والتطرف الديني، على اعتبار أن البلاد التي يهيمن فيها حزب واحد ذو مرجعية دينية تنمو فيها البيئة الملائمة لبروز التطرف وتجذر التشدد.
إن أحزاب اليسار وأحزاب الصف الديمقراطي توجد كلها الآن في سفينة معرضة للغرق، فإما أن يتآلف البحارة ويتناسوا خلافاتهم لإنقاذ السفينة بتوحيد الجهود وتكثيف النضال، وإما أن يموتوا إلى الأبد!!