تعتبر الانتخابات الجماعية و الجهوية التي جرت في المغرب يوم الرابع من شتنبر 2015، أول انتخابات في إطار الإصلاح الدستوري لسنة 2011 الذي تمخض عن الحراك الذي شهده المغرب إبان ما عرف بموجة "الربيع العربي"، كما أن هذا الاقتراع يأتي ضمن سياق إقليمي و دولي يتسم بكثير من عدم الاستقرار و الفوضى و الاقتتال،فأينما يممت وجهك سواء على مستوى منطقة شمال أفريقيا و دول الساحل أو على امتداد دول الشرق الأوسط إلا وكان الإرهاب و الدمار هو المشهد المؤثث ليوميات هذه المناطق، وحده المغرب شكل استثناء عن هذا النسق البائس، فعوضا عن لعبة الرصاص الذي يدمر البلدان و يقتل الإنسان فانه في المغرب تمارس لعبة أخرى قوامها صناديق الاقتراع التي تكرس التوجه الديمقراطي للبلاد و تحمي استقرارها و تقدمها، فمنذ أول انتخابات مهنية و جماعية شهدها المغرب في 1960 و بعدها الانتخابات التشريعية في 1961 ضمن أول وثيقة دستورية عرفت الكثير من الجدل السياسي، ما فتأت التجربة المغربية تعرف تطورات مهمة نتيجة تراكم الممارسة الديمقراطية و مطالبات المجتمع المدني، حيث تمخضت عن آليات و صيغ لتسيير الشأن العام الوطني و المحلي أكثر رقيا من قبيل الجهوية الموسعة التي من شأنها أن تشكل قفرة نوعية في التسيير المحلي وحل ديمقراطي متقدم لما يعرف بقضية الصحراء.
وقد تمخضت هذه الانتخابات التي عرفت نسبة مشاركة تجاوزت 52 في المائة عن تصدر حزب "الأصالة و المعاصرة" جماعيا و حزب "العدالة و التنمية" جهويا مع تحقيق هذا الأخير لنتائج كبيرة على المستوى الجماعي،إن قراءة متأنية لمجموع هذه النتائج يفضي بنا إلى استخلاص مجموعة من الاستنتاجات التي يمكن حصرها في خمس ملاحظات أساسية:
1* إن نسبة المشاركة الشعبية في هذه الانتخابات التي تجاوزت 52% حسب تصريحات وزارة الداخلية المغربية لا تعكس بتاتا أي دور للأحزاب المغربية في إقناع الموطنين و استقطابهم للمشاركة في العملية الانتخابية بقدر ما تعكس تفاعلا شعبيا إيجابيا مع الخطاب الملكي الأخير، فضعف التأطير الحزبي لهذه الأحزاب و استشراء ظاهرة الترحال السياسي و "موت الايدولوجيا الحزبية" بحيث أصبحت الانتماءات السياسية تخضع لاعتبارات شخصية و مصلحيه و ليست فكرية و عقائدية يبعد أي دور لكل هذا التشكيل السياسي الحزبي المقارب للثلاثين حزبا في هذه النسبة الملفتة.
2* إن تصدر حزب الأصالة و المعاصرة للنتائج الجماعية يعتبر أمرا متوقعا و منسجما مع مجموع المعطيات الموضوعية و الذاتية و التي أقلها تمكن هذا الحزب من استقطاب مجموعة من الشخصيات ذات الثقل الانتخابي التي تجعل من أمر تصدره للمشهد الانتخابي بمثابة تحصيل حاصل.
3* إن تمكن حزب العدالة و التنمية من تصدر النتائج الجهوية و تحقيقه لنتائج كبيرة في كبريات المدن المغربية خاصة معقل حزب "الاستقلال" مدينة "فاس"، و بشكل استطاع فيه حزب المصباح من مضاعفة مقاعده بحوالي ثلاثة أضعاف مقارنة بالانتخابات السابقة يعتبر امرا غير منسجم مع مجموعة من المعطيات و الوقائع المحلية و الإقليمية و التي لا تسعفنا مطلقا في توقع هذه النتائج الكبيرة، فلا سياسة متزعم الائتلاف الحكومي المثيرة للجدل و لا الوقائع المحلية و الإقليمية تؤدي بنا إلى توقع مثل هكذا سيناريو، و المتمثلة عموما فيما يلي:
+ أداء دور التلميذ النجيب إزاء المؤسسات الرأسمالية الدولية و الاهتمام بهاجس تحقيق التوازنات الحسابية و النتائج المالية على حساب الاهتمام بحقوق و مكتسبات المواطنين المغاربة.
+انتهاج سياسة تعتبر لدى شريحة عريضة من المجتمع المغربي بأنها سياسة تراجعية و لا شعبية خاصة لدى الكثير من الموظفين و المعطلين.
+مقاطعة جماعة العدل و الإحسان للانتخابات الأخيرة و التي تعد مصدرا مهما للأصوات الانتخابية المؤيدة للعدالة و التنمية، أضف إلى ذلك مشاركة حزبان يزاحمان العدالة و التنمية نفس التوجهات في هذه الانتخابات الجماعية و الجهوية.
+السياق الإقليمي المتسم بترنح معظم تجارب الحكم ذات التوجهات الاخوانية بما في ذلك تراجع حزب العدالة و التنمية التركي الذي لم يستطع الحصول على أغلبية تمكنه من التفرد بالحكم في تركيا و تخبطه في مجموعة من المشاكل الداخلية و الخارجية.
و بالتالي فإن الخلل بين المقدمات الموضوعية الأنفة الذكر و بين النتائج و الوقائع التي تمخضت عن هذه الانتخابات تستدعي البحث عن مكامن الخطأ و عن الحلقات الضائعة التي من شأنها تقويم هدا التناقض الصارخ بين السياق و النتيجة.
4* إن التراجع المهول لحزب "الاتحاد الاشتراكي" الذي كان يعتبر نموذجا للانضباط و الالتزام النضالي و الحزبي و قلعة للمثقفين و المفكرين المغاربة ، ينبأ بتداعيات سلبية جدا على مستقبل هذا الحزب، فحجم الصراعات الداخلية و فتح الباب على مصراعيه لأرباب الأموال "أصحاب الشكارة" يعتبر من العوامل المساهمة في تدهور هذا الحزب العريق، ولئن كان البحث في هذه الظاهرة الخطيرة يستوجب بنا الرجوع إلى مرحلة ما عرف بالتناوب الديمقراطي التي قادها هذا الحزب.
5* إن حجم الترحال السياسي الذي و سم المشهد الحزبي يضعنا عمليا أمام اندثار الهوية السياسية للأحزاب المغربية، فالقناعات الفكرية و الأيديولوجية لم يعد لها مكان في القاموس الحزبي المغربي إلا لدى ثلة قليلة من الأحزاب و على رأسها الأحزاب اليسارية المقاطعة للعملية الانتخابية، مما لا يساهم في تفعيل الكثير من الأدوار المهمة للأحزاب خاصة على مستوى التنشئة الحزبية و تأطير المواطنين، مما يجعلهم ضحايا للاستقطابات الفكرية و العقائدية المتطرفة خاصة و نحن نعيش في عالم مليء بالتحديات الأمنية و الاقتصادية و الفكرية.
خلاصة القول أن فرادة النموذج المغربي تكمن في مجموعة من العوامل لعل من أبرزها التجربة الديمقراطية المغربية التي يتحتم مقاربتها في سياقها المحلي و الإقليمي الخاص بها لكي يتسنى فهمها بشكل جيد، فالسياق العالم ثالثي الذي تنتمي إليه تجعل من هذه التجربة نموذجا متقدما جدا و لا مجال لمقارنته مع كثير من التجارب السياسية سواء في المنطقة المغاربية و الأفريقية أو منطقة الشرق الأوسط التي يتأرجح فيها المشهد السياسي بين دول عشائرية لا تؤمن بالآليات الديمقراطية قي تدبير الحكم و بين ديمقراطيات طائفية تقتل الكفاءة و الحياة السياسة و تجعلها رهينة أهواء و مزاج زعيم الطائفة، و مهما قيل عن هده التجربة النامية فإنها قد ساهمت قي استقرار البلد و جنبته ويلات الكثير من مصائب الشرق و الغرب، و عموما فإنه لا توجد أي ديمقراطية مثالية و مطلقة بما في ذلك النموذج الغربي العريق الذي يصبح فيه كل ما يبدو من حرية مطلقة في الاختيار إلي مجرد نتائج منطقية للعمل الضخم و الدقيق و الممنهج لمراكز سبر الآراء و معاهد الدراسات الإستراتيجية و وسائل الإعلام و الدعاية التي تشكل توجهات و أذواق و اختيارات المواطن الغربي بحيث يكون عمليا أمام ممارسة حرة في الشكل و موجهة في الجوهر.