ذهب الظن، بل الاعتقاد، بذوي النوايا الطيبة والحسنة إلى أن إيران بعد التوصل إلى هذه الاتفاقية، اتفاقية النووي، ستبادر، إنْ ليس فورًا فبعد مرحلة انتقالية، إلى سياسة تغيير الاتجاهات ووقف عمليات التأزيم، التي كانت قد بدأت بها بعد انتصار ثورتها في عام 1979 تجاه العرب بغالبيتهم إنْ ليس كلهم، ما دامت تنازلت عن العديد من مواقفها للتفاهم مع مجموعة «5+1» التي تقودها دولة «الشيطان الأكبر»!!.. الولايات المتحدة الأميركية.
كان اعتقاد هؤلاء (الطيبين أكثر من اللزوم بل الساذجين أكثر من اللزوم) أن خرائط هذه المنطقة السياسية والعسكرية سوف تشهد تغيُّرات «استراتيجية» وأساسية في هذا المجال، وأنَّ «الأشقاء الإيرانيين» سيتخلون عن أطماعهم وعن تمددهم في هذه المنطقة العربية وعن سعيهم الدؤوب للهيمنة عليها، وسيضعون أيديهم في أيدي «أشقائهم» العرب لمواجهة التحديات الحقيقية والفعلية المشتركة، وأولها تحدي الإرهاب وتحدي التنمية المطلوبة وتصحيح الأوضاع الاقتصادية المتردية وتطوير التعليم و«خلق» أجيال عربية وإيرانية لديها الرغبة في التعاون والعيش المشترك والذهاب في مسيرة تكاملية نحو المستقبل الذي تريده وتتطلع إليه هذه الأجيال. وحقيقة فإن هؤلاء الحالمين والطيبين حتى حدود السذاجة اعتقدوا، وربما أنهم ما زالوا يعتقدون، أنَّ هذه التطلعات الغارقة في التفاؤل أكثر من اللزوم من الممكن بل يجب أن تشمل تركيا، وأن تضعها في نفس الدائرة العربية – الإيرانية المنشودة، وعلى اعتبار أن ما يجمع الإيرانيين والعرب يجمع هذين الطرفين بالأتراك الذين هم أشقاء أيضًا ويجمعهم بهؤلاء في عهد الإمبراطورية العثمانية وقبل ذلك تاريخ مشترك طويل لا يزال صالحًا لانطلاق مسيرة إخاء وتعاون ومصالح متبادلة ناجحة وواعدة، وبخاصة أن العالم كله بشعوبه كلها ودوله كلها أيضًا قد تحول مع بدايات الألفية الثالثة إلى كتل ومجموعات على أساس تطلعاتها الاقتصادية ومواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين بالإضافة إلى التعاون السياسي وفي مجالات كثيرة.
ولعل ما يشير إلى هذا أن توقيع إيران على اتفاقية النووي إلى جانب توقيع «الشيطان الأكبر» قد جعل بعضنا، بعض كتّابنا وبعض سياسيينا، يحلقون عاليًا في أحلامهم الوردية، ويذهبون فورًا إلى المطالبة بالانفتاح على إيران وكل التحاور معها، وهذا رغم أن مرشد الثورة الإيرانية السيد علي خامنئي قد بادر فورًا، بعد التوقيع على هذه الاتفاقية، إلى التأكيد على أنه لا تغيير في المواقف والسياسات الإيرانية، وأن بلاده، دولة الولي الفقيه، ستواصل مساندتها لـ«المستضعفين» في سوريا والعراق ولبنان واليمن والبحرين!!
ويقينًا، ورغم هذا الموقف القاطع المانع الذي أعلنه السيد علي خامنئي، فإنه بالإمكان التنازل عن الكثير من الأمور والقفز من فوق الكثير من الحواجز، والذهاب إلى طهران من الأبواب العريضة، وفتح حوار الأشقاء مع الأشقاء معها، لو أنه قد صدر عن الذين يصنعون القرارات الحاسمة في الحوزة السياسية الإيرانية ولو بصيص ضوء خافت بأنه لدى إيران نية فعلية وتوجه حقيقي للتحول عن هذه السياسات التدميرية التي دأبت على انتهاجها ضد العرب والتدخل في شؤونهم الداخلية واحتقار حاضرهم وتاريخهم وإنكار أي دور حضاري لهم كأمة.
والغريب والمستغرب أنه في حين تتمسك «الشقيقة» إيران كل هذا التمسك بمواقفها العدائية تجاه العرب، وتواصل التدخل في شؤونهم الداخلية بحجة دعم المستضعفين في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين، كما قال خامنئي بعد تأكيده على أنه لا تغيير إطلاقًا في سياسات بلاده، فإن وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند قد قال، بعد آخر لقاءٍ جمعه في طهران مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف: «إن موقف الجمهورية الإسلامية من إسرائيل قد اختلف قليلاً»، والمعروف في السياسة أن هذا القليل يعني كثيرًا، وأن زعيم الصين الكبير ماو تسي تونغ كان قد قال بعد المسيرة الشيوعية الطويلة: «إن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة».
وبالطبع فإن هاموند قد اعتبر طهران، من أجل استدراج إيران لتغيير مواقفها إنْ في اتجاه الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة وإنْ في اتجاه إسرائيل «لاعبًا كبيرًا في الشرق الأوسط بحيث يجب ألا تظل في عزلة»، وكل هذا مع أنه أردف قائلاً، ربما من أجل عدم إخافة العرب، عرب الخليج تحديدًا، وعدم تعزيز الشكوك التي ساورتهم وراودتهم بعد توقيع الاتفاقية النووية، إنه يجب التعامل بحذر مع الإيرانيين.. فهناك تركة من انعدام الثقة (المتبادل) بين الجانبين.
إنَّ هذا هو واقع الحال بين معظم العرب إنْ ليس كلهم وبين «الشقيقة» إيران، ولعل ما لا يعرفه الذين يطالبون بمبادرةٍ للحوار مع دولة الولي الفقيه، وهي على ما هي عليه وهي ماضية في التمدد في المنطقة ومصرة على مواصلة التدخل في الشؤون العربية الداخلية، هو أنَّ ما يُعلِّمهُ الإيرانيون لأطفالهم وما يلقنونه لأجيالهم، التي من المفترض أن تتوافر لها ومنذ الآن مساحة للتعاون والتفاهم مع الأجيال العربية، هو أن: هناك ثلاث أمم إسلامية هي الأمة الفارسية التي هي أمة الحضارة والتفوق والتميز والثقافة والإبداع، والأمة التركية (العثمانية) التي هي أمة «جندرمة» عسكرية، والأمة العربية التي هي أمة بداوة لم يكن لها دور في الماضي وليس لها دور في الحاضر ولن يكون لها أي دور في المستقبل.
ثم والملاحظ أنَّ إيران، بعدما استندت إلى تركيا اقتصاديًا واتكأت عليها سياسيًا عندما اشتد ضغط العقوبات الدولية عليها، أي على إيران، وأُغلقت في وجهها أبواب الدول الغربية الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة، قد بادرت، بمجرد إحراز مفاوضات النووي تقدمًا فعليًا أدى إلى توقيع الاتفاقية الأخيرة، إلى اللعب في الساحة التركية واستخدام حزب العمال الكردستاني (PKK) كمخلب قط لإشغال تركيا بأوضاعها الداخلية ومنعها من لعب أي دور إقليمي تتطلبه مكانتها في المنطقة وبخاصة بالنسبة للأزمة السورية الخطيرة والمصيرية والمتفاقمة. وهنا فإن المفترض أنه معروف أن طهران قد ورثت هذا الحزب من نظام بشار الأسد، الذي كان ورثه عن والده، الذي لم يتردد في تسليم عبد الله أوجلان في نهايات تسعينات القرن الماضي تسليم اليد إلى المخابرات التركية استجابة للضغوطات التي مارستها أنقرة عليه. ولهذا فإن الواضح أن إيران تتجه، حتى بعد توقيع اتفاقية النووي، إلى أن تلعب مع تركيا نفس ما تلعبه مع العرب، وأنها عازمة على إغراق هذه الدولة «الشقيقة» فعلا في الفوضى نفسها التي يغرق فيها العراق وتغرق فيها سوريا واليمن ويغرق فيها لبنان. فطهران تريد أن تثبت للغرب أنها هي الرقم الصعب في المعادلة الشرق أوسطية وليس غيرها، وأن بوابة هذه المنطقة هي بوابتها. وحقيقة فإن هذا هو ما عناه وزير الخارجية البريطاني عندما اعتبر أن الجمهورية الإسلامية لاعب رئيسي في الشرق الأوسط ويجب ألا تظل في عزلة.
وهكذا فإنه لا بد من التأكيد، رغم هذا كله، على أن إيران بحاجة إلى إعادة بناء كامل ومن الصفر، وهذا يقتضي أن تبادر إلى وقف عمليات عسكرة الدولة، ووقف التمدد الخارجي والتدخل في شؤون الدول المجاورة والبعيدة، فالشعب الإيراني أولى بكل هذه الأموال التي تنفق على هذه المشاريع العبثية، والشعب الإيراني من مصلحته أن تكون علاقات بلاده مع العرب والأتراك علاقات تعاون ومصالح مشتركة.