يعتبر القضاء مرحلة توسطية بين القانون والعدالة ولا يقتصر دوره تاريخيا على مجرد إصدار حكم أو قرار يؤكد حق للأفراد بل يمتد إلى التنفيذ مستهدفا تغيير الواقع العملي و جعله متلائما مع الحكم القضائي (مركزين على أحكام القضاء الإداري) ويمنحه القانون القوة التنفيذية لكي لا تصير حقوق الأفراد وهما لا قيمة له ، بل يصبح واقعا ملموسا في مواجهة المحكوم ضدهم (الإدارة) التي قد تتماطل و تتقاعس عن الخضوع لمنطوق القاضي ، لأن لجوء المواطن إلى رفع دعوى لدى القضاء الإداري يكون لغرض استصدار حكم أو قرار لصالحه يحمي حقوقه التي تم المس بها من قبل الإدارة ، هذه الحماية تبقى دون فاعلية ما لم يجد القاضي الوسيلة لإجبار الإدارة على تنفيذه في حالة امتناعها عن ذلك ، لان هذه الأخيرة كثيرا ما تمتنع عن التنفيذ و تتجاهل التزاماتها اتجاه القانون. فواقع تعامل الإدارة مع ما سبق يبعث في عقولنا الحيرة بسبب لجوئها إلى مجموعة من الوسائل من أجل تفادي تنفيذ حكم أو قرار صادر ضدها، متذرعة أحيانا بأسباب لا أساس لها ، مما يفقد الأحكام القضائية حجيتها وقوتها ، بل يفقد حتى الأساس الذي قام عليه مبدأ فصل السلط .
وحسب تقارير مؤسسة الوسيط ومختلف الأحكام القضائية التي تصدرها المحاكم لإجبار الإدارة وحملها على تنفيذ منطوق العدالة لهي خير دليل على أن ظاهرة امتناع الإدارة العمومية عن تنفيذ أحكام القضاء باتت واقعا ملموسا ومعاشا لا يمكن حجبه أو إنكاره.
وأن هذه الظاهرة تتسع وتضيق عندما يختلف المعنيين بها . وإزاء هذه الوضعية نجد الدستور المغربي لسنة 2011 لأول مرة أولى حماية خاصة للأحكام القضائية من خلال الفصل 126 الذي جاء فيه أن " الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع. يجب على السلطات العمومية تقديم المساعدة اللازمة أثناء المحاكمة، إذا صدر الأمر إليها بذلك، ويجب عليها المساعدة على تنفيذ الأحكام." وهذا توجه محمود يؤمن عملية الوفاء والالتزام بما صدر عن المحاكم ، إذ يمكننا من إيجاد سند يبرر التنصيص على مقتضيات تساعد القضاء على فرض احترام أحكامه بالوسائل التي تحمي الحقوق والحريات الفردية ، وهو ما أكده مشروع المتعلق بالمسطرة المدنية من خلال الباب الثالث مكرر الذي يتحدث عن تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مواجهة أشخاص القانون العام قاصدا بها الدولة وإداراتها والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية وهيئاتها (المادة 21-451 ).
فأكد على وجوب تنفيذ الأحكام والقرارات والأوامر القضائية القابلة للتنفيذ من قبل أشخاص القانون العام الصادرة في مواجهتهم، بحيث يبلغ المكلف بالتنفيذ داخل أجل عشرة أيام من تاريخ تقديم الطلب، نسخة من طلب التنفيذ وصورة من السند المراد تنفيذه إلى الجهة المنفذ عليها مع إعذارها بالتنفيذ اختياريا حالا أو بتعريفها، وإذا تعلق التنفيذ بالقيام بعمل أو الامتناع عنه، أمكن لقاضي التنفيذ أن يمنح مهلة بناء على طلب أقصاه تسعون يوما من يوم الإعذار بالتنفيذ.وإذا تعلق التنفيذ بأداء مبلغ مالي ولم تتوفر اعتمادات في ميزانية السنة الجارية لتنفيذه، تم هذا التنفيذ داخل أجل أقصاه تسعون يوما من تاريخ المصادقة على ميزانية السنة الموالية . ويعتبر أشخاص القانون العام في حالة امتناع عن التنفيذ في مرور هذه الأجال الذي يثبت بمحضر يحرر طبقا للقواعد العامة للقانون ، وفي نفس السياق سمحت المادة 24-451 من المشروع لقاضي التنفيذ الأمر بغرامة تهديدية في مواجهة شخص القانون العام المنفذ عليه أو المسؤول شخصيا عن التنفيذ أو عليهما معا. إلا أن أهم إجراء أتى به مشروع المسطرة هو جوازية الحجز التنفيذي على الأموال والعقارات الخاصة لأشخاص القانون العام وإقرار المسؤولية الشخصية المدنية التي تطبق ضد الموظفين في مجال تنفيذ الأحكام والقرارات القضائية الإدارية، إلزام الموظف المخالف والممتنع عن التنفيذ أن يقدم تعويض مالي إلى المحكوم لصالحه .وأيضا المسؤولية التأديبية إذ أن أهم واجبات الموظف هو احترام الأحكام والقرارات القضائية فامتناع الموظف عن التنفيذ أو قيامه بعرقلته أو تراخيه في تنفيذه أو تنفيذه على وجه غير صحيح ينم على إخلال بواجبات الوظيفة وإهدار لحجية الشيء المقضي به فهو جريمة تأديبية مقرونة بالجزاء، وفق المادتين على التوالي 451-25 و451-26 .
وفي المقابل فالنقاش العام الدائر حول مشاريع هذه القوانين وخاصة حول مسودة مشروع القانون الجنائي الصادر عن وزارة العدل يشجع على استكمال دائرة المسؤوليات الشخصية وذلك بتجريم الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية على غرار ما نجده في التشريعات المقارنة بإقرار المسؤولية الجنائية عن جريمة الامتناع عن تنفيذ القرارات القضائية الإدارية والتي لها ارتباطا وثيقا بتحصين قوة وحجية أعمال القضاء في إطار إثارة المسؤولية الشخصية للموظف حين يرفض أو يهمل تنفيذ القرار القضائي ويكون قد خرج عن حدود وظيفته ويكون بذلك قد ارتكب خطأ شخصي يسأل عنه جنائيا، بشكل يلزم كل موظف في أي جهاز كان أو إدارة عمومية أن يبادر إلى تنفيذ قرارات العدالة, خاصة وأن الامتناع أو الاعتراض على التنفيذ أو عرقلة التنفيذ يضر بمصلحة الأفراد والدولة على حد سواء. وهو ما يمكن أن يشكل نوعا من الضغط المعنوي بالنسبة للموظف المنوط به تنفيذ حكم القضاء أيا ما كان مسؤوليته والجهة الإدارية التي يمثلها. وفق المفهوم الواسع له والذي نص عليه الفصل 224 من القانون الجنائي المغربي بحيث : " يعد موظفا عموميا في تطبيق أحكام التشريع الجنائي كل شخص كيفما كانت صفته يعهد إليه في حدود معينة بمباشرة وظيفة أو مهمة ولو مؤقتة بأجر أو بدون أجر ويساهم بذلك في خدمة الدولة أو المصالح العمومية أو الهيئات البلدية أو المؤسسات العمومية أو مصلحة ذات نفع عام . وتراعى صفة الموظف في وقت ارتكاب الجريمة ، ومع ذلك فإن هذه الصفة تعتبر باقية له بعد انتهاء خدمته ، إذا كانت هي التي سهلت له ارتكاب الجريمة أو مكنته من تنفيذها " . وهذه الدعوة هي تأكيد على المبادئ العامة التي تحكم القانون الجنائي ألا وهو شرعية التجريم والعقاب ، أي أنه لا يمكن مساءلة أي فرد عن فعل قام به إلا إذا كان هذا الفعل يندرج في عداد الجرائم المحددة في القانون الخاص بها تطبيقا للقاعة "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"، وبالرغم من وجود المادة 266 التي تجرم الأفعال أو الأقوال أو الكتابات العلنية، التي يقصد منها التأثير على قرارات رجال القضاء، قبل صدور الحكم غير القابل للطعن في قضية ما ، وأيضا التي يقصد منها تحقير المقررات القضائية، ويكون من شأنها المساس بسلطة القضاء أواستقلاله، الذي اتخذ أساسا في عدة قضايا لتجريم عدم التنفيذ إلا ان التطبيقات القضائية عطلت نسبيا من قدرته على الضغط على المسئوولين على التنفيذ وهكذا جاء في عدة قرارات للمجلس الأعلى ما يلي:
"إن مقتضيات الفصل 266 من القانون الجنائي لا يمكن تطبيقها إلا في نطاق ما نص عليه الفصل المذكور فيما يتعلق بتحقير مقررات قضائية أي المساس بالاحترام الواجب للقضاء و سلطته. مجرد الإمتناع عن التنفيذ لا يشكل عنصرا من عناصر جنحة تحقير مقررات قضائية".( قرار عدد 979، صادر بتاريخ 21/04/98، ملف جنحي عدد 4102/97، مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 55، ص 505). "إن مجرد تعرض المنفذ عليه على التنفيذ لا يكفي لقيام جنحة تحقير مقرر قضائي". (قرار عدد 1182، صادر بتاريخ 11/07/1995، ملف جنحي عدد 2056/93، مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 50/49، ص 198.) "مجرد الإمتناع عن تنفيذ حكم لا يشكل عناصر الفصل 266 من القانون الجنائي المتعلق بتحقير مقرر قضائي، الذي يقتضي أن تصدر عن الجاني أقوال أو أفعال من شأنها المساس بحرمة القضاء" ".( قرار للمجلس الأعلى بتاريخ 26/07/1990، ملف جنحي عدد 16567/89، مجلة الإشعاع عدد 7، ص 107.)، وبالتالي امام هذا الفراغ التشريعي فمن الضروري الدعوة إلى تضمين مشروع القانون الجنائي تجريم صريح لعدم التنفيذ كما هو حاصل في مصر التي يعتبر فيها الامتناع عن التنفيذ جريمة بمقتضى الدستور بحيث نص الإعلان الدستوري لسنة 2011 (كما في دستور سنة 1972) في المادة 24 على أنه "تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب ، ويكون الامتناع عن تنفيذها أو تعطيل تنفيذها من جانب الموظفين العموميين المختصين جريمة يعاقب عليها القانون . وللمحكوم لـه في هذه الحالة حق رفع الدعوى الجنائية مباشرة إلى المحكمة المختصة " وبمقتضى قانونه الجنائي في المادة 23 حين نص على أنه" يعاقب بالحبس والعزل كل موظف عمومي استعمل سلطة وظيفته في وقف تنفيذ الأوامر الصادرة من الحكومة أو أحكام القوانين أو اللوائح أو تأخير تحصيل الأموال والرسوم أو وقف تنفيذ حكم أو أمر صادر من المحكمة أو من أية جهة مختصة ،كذلك يعاقب بالحبس والعزل كل موظف عمومي امتنع عمدا عن تنفيذ حكم أو أمر مما ذكر بعد مضي ثمانية أيام من إنذاره علي يد محضر إذا كان تنفيذ الحكم أو الأمر داخلا في اختصاص الموظف ". وأيضا نجد المادة 138 مكرر من قانون العقوبات الجزائري نصت على ما يلي: '' كل موظف عمومي استعمل سلطة وظيفته لوقف تنفيذ حكم قضائي أو امتنع أواعترض أو عرقل عمدا تنفيذه، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة من 5000 إلى 50,000 دينارا ''، وأيضا المادة 182 من القانون الجنائي للأردن التي نصت على انه " كل موظف يستعمل سلطة وظيفته مباشرة أو بطريق غير مباشر ليعوق أو يؤخر تنفيذ أحكام القوانين، أو الأنظمة المعمول بها أو جباية الرسوم والضرائب المقررة قانوناً أو تنفيذ قرار قضائي أو أي أمر صادر عن سلطة ذات صلاحية يعاقب بالحبس من شهر إلى سنتين." ،وكذلك فعل القانون الجنائي الموريتاني في المادة 182 حين أكد على أن "كل موظف عمومي أو عون أو مأمور حكومي مهما كانت رتبته يطلب أو يأمر أو يعمل على حصول تدخل أو استعمال القوة العمومية ضد تنفيذ قانون أو تحصيل ضرائب مقررة قانونا أو ضد تنفيذ أمر أو قرار قضائي أو أي أمر آخر صادر من السلطة الشرعية يعاقب بالسجن."
ونجد أيضا نظام التنفيذ السعودي بمثابة قانون المرافعات أكد في نص المادة (89) منه على أن: "يعاقب الموظف العام ومن في حكمه بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات إذا منع التنفيذ أو أعاقه، ويعد ذلك جريمة من الجرائم المخلة بالأمانة"...الخ ومن خلال ما سبق تتحدد المسؤولية الجنائية من حلال أركان ثابتة قانونا تتمثل في :
أن يكون المتهم موظف وهو شرط مفترض ، وفق المفهوم الموسع لنصوص القانون الجنائي للموظف
أن يكون التنفيذ من اختصاص الموظف
تحقق الركن المادي المتمثل في استعمال السلطة الوظيفية لوقف تنفيذ حكم قضائي.والامتناع والاعتراض عن تنفيذهما، والعرقلة العمدية لتنفيذ الحكم القضائي
وجود القصد الجنائي أي اتجاه نية الموظف إلى ارتكاب جريمة الامتناع عن تنفيذ الحكم مع علمه بأنه معاقب عليه قانونا والذي ينتفي حسب التوجهات القانونية والقضائية المقارنة في حالة غياب أو ضعف الاعتمادات المالية التي يتطلبها التنفيذ و ذلك في أحكام التعويض وفي حالة عدم وضوح الحكم المراد تنفيذه واستحالة تنفيذ الحكم من الناحية المادية. وهذه الحاجة إلى تجريم الامتناع عن التنفيذ ستشكل رادعا لكل موظف ممتنع وإلا سيعرض نفسه لعقوبة السجن، إذ تعتبر فكرة المسؤولية الشخصية للموظف الممتنع عن التنفيذ ضمانا حقيقيا لتنفيذ الأحكام والقرارات القضائية الحائرة لقوة الشيء المقضي فيه، في ظل القانون الجنائي الذي يعتبر ملجأ وملاذ الأفراد لمواجهة هذه الممارسات، فهو الرادع لكل التجاوزات وصمام الأمان للحقوق والحريات العامة والكفيل الحقيقي لحفظ النظام العام داخل المجتمع. ملاحظة لا علاقة لها بما سبق:
يتحدث الدستور المغربي عن مصطلح الجماعات الترابية متخليا عن المصطلح القديم الذي تكرر عدة مرات في مسودة مشروع القانون الجنائي بصيغة الجماعات المحلية في المواد 47، و1-132، و1-245، و346، و349، و1-391، باستثناء 224 التي تحدثت عن الجماعات الترابية، لذا نناشد واضعي المشروع تعويض الجماعات المحلية بالجماعات الترابية تناغما وانسجاما مع اللفظ الدستوري .