يفقد الإفراط في "التهويل" و"التهليل" الذي رافق توقيع إيران والدول الست الكبرى اتفاق فيينا بعض مبرراته مع الفجوات التي ظهرت في التحركات الدبلوماسية الإيرانية وردود الفعل التي تثيرها.
الخطاب السياسي الذي استخدمه وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، خلال جولته الأخيرة في المنطقة، يكشف عن صعوبات حقيقية تواجهها المحاولات الإيرانية للإمساك بخيوط اللعبة، وزيادة التأثير في مسارات الأحداث.
ففي بعض محطات جولته حاول ظريف حرق المراحل والقفز عن إطار تهدئة مخاوف دول الجوار من السياسة الإيرانية بالدعوة إلى التعاون في مواجهة إرهاب داعش دون مراعاة معطيات وآليات تفكير مستقبليه.
قد يكون أبرز هذه المعطيات تصورات بعض العواصم التي زارها الوزير الإيراني لحدود وهوامش ونواقص اتفاق فيينا وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على تطورات الأوضاع في الإقليم .
فلم يأت قلق دول المنطقة الذي رافق التوصل للاتفاق من رفض عواصم الإقليم لتقييد تسلح إيران النووي بقدر ما كان نتيجة لغياب الضوابط المفترض وضعها للحد من تجاوزات الدور الإيراني.
ولا يعني الامتعاض الإقليمي من غياب الضوابط المفترضة والتجاهل الغربي لدوافع التصعيد الإيرانية نهاية العلاقات التاريخية التي تربط بعض عواصم المنطقة بالولايات المتحدة، فهي علاقات على قدر كبير من الاستقرار رغم مرورها بمنعطفات خلال العقود الماضية.
زاد من صعوبة مهمة ظريف وتشتيت خطابه فهم دول المنطقة للأوضاع الداخلية الإيرانية ومساهمة هذه الأوضاع في مفاقمة القلق من الدور الإيراني المحتمل بعد التوقيع على الاتفاق، حيث يوفر صراع أجنحة الحكم الإيرانية ونزعاتها المذهبية والقومية وتناقضات الشارع الإيراني دوافع كافية لمواصلة سياسة تصدير الأزمات ومحاولة تثميرها "الآني" في تنفيس الاحتقانات.
وزير الخارجية الإيراني الذي خاض مفاوضات ماراثونية مع الدول الست الكبرى يدرك نظرة عواصم المنطقة للسياسة الإيرانية باعتبارها خطراً يتقدم على الخطر الداعشي في الكثير من الأحيان.
فلم يخل الأمر من تعبير النخب وصناع القرار العرب عن قناعاتهم بالاستخدام الإيراني للظروف والمناخات التي يساهم داعش في إيجادها، واعتقادهم بأن التطرف المذهبي والقومي الإيراني يغذي العنف "الداعشي" بمبررات تطرف مذهبي مضاد، مما يحول دعوة ظريف للشراكة في الحرب على الإرهاب إلى شكل من أشكال العبث.
كما يعي رجل الدبلوماسية الإيرانية الأول أن بلاده لا تتحرك في الفراغ، وليست اللاعب الوحيد في بؤر التوتر الإقليمي، وأن للدول التي زارها بوصلتها ورؤيتها للتوازنات وقنواتها مع المجتمع الدولي، مما زاد من صعوبة مهمته التي بدت أقرب إلى محاولة يائسة لبيع الوهم.
بحكم خضوعه لمعطيات السياسة الداخلية والخارجية التي يتبعها نظام الملالي يبقى المنحى الذي تتخذه الدبلوماسية الإيرانية بعيداً عن توفير تطمينات لعواصم المنطقة التي لا تجد ما يشجعها على تغيير نظرتها لعامل تأزيم إقليمي تفوق دوافعه التصعيدية حاجات التهدئة والتوصل إلى تسويات حول بؤر التوتر في المنطقة الأمر الذي ستكون له تبعاته على إمكانيات تفاهم إيران مع المجتمع الدولي رغم محاولة بعض عواصمه تجاوز هذه المعطيات واللهاث وراء رغبة توقيع اتفاقات اقتصادية وتجارية مع طهران.