يشكل الاتفاق الأخير حول الملف النووي الإيراني بداية عهد جديد في منطقة الشرق الأوسط. ولذلك فالإحساس بأهميته شكل حافزا أمام المفاوضين من الطرفين لتكبد عناء مسار تفاوضي طويل وعسير استمر لأزيد من واحد وعشرين شهرا من المفاوضات الصعبة التي أعقبت التوصل إلى الاتفاق الإطار في 2013، وتطلبت عدة تمديدات للمهلة التي كانت مبرمجة لإغلاق هذا الملف.
يمثل هذا الاتفاق المرحلة الثالثة والأخيرة من مفاوضات شاقة بين القوى الكبرى، الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا، وإيران، إذ سبقه الاتفاق الانتقالي بجنيف في نونبر 2013، واتفاق الإطار بلوزان في أبريل 2015، ويتم بمقتضى الاتفاق النهائي، المبرم في يوليو 2015، تقييد البرنامج النووي الإيراني وتعزيز الإجراءات الرقابية عليه وحظر مبيعات الأسلحة التقليدية والصواريخ الباليستية أو التكنولوجيا المؤدية إليها إلى إيران مقابل الاعتراف ببرنامجها النووي السلمي ورفع العقوبات الاقتصادية والمصرفية عليها بعد التأكد من وفائها بالتزاماتها في الاتفاق. ولذلك اشتُرط أن لا يدخل الاتفاق حيز التطبيق حتى تفي إيران بالتزاماتها وتصدق على ذلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما تضمن الاتفاق العودة الفورية لهذه العقوبات في حالة إخلال إيران بالتزاماتها.
وبعيدا عن التصريحات، من هذا الجانب أو ذاك، التي تحاول التحفظ أو الاعتراض على مضامين الاتفاق، فإن كل الأطراف المعنية متأكدة أن ما تم التوصل إليه هو الأقصى والمتاح في ظل الشروط الراهنة، وهو المرغوب فيه في هذه المرحلة على الأقل في انتظار بحث كل طرف عن آليات أخرى مناسبة للمرحلة القادمة، ولا تعدو تلك التصريحات استهلاكا إعلاميا للظهور بمظهر القوي، أو للاستهلاك الشعبي في مواجهة الشارع الذي لن يستسيغ هذا التحول في الموقف بالنسبة للطرفين معا.
غاية هذا الاتفاق تأمين عقد من الزمن، وقد كان فرانسوا هولاند دقيقا حين صرح بذلك، ليضمن الغرب التعايش مع إيران بدون سلاح نووي وبعدها يعوَل على نوع من الاختراق للداخل الإيراني نتيجة نشوء طبقة متوسطة/شبكة مصالح إيرانية ترفض العودة إلى ما قبل هذا الاتفاق، ونشوء جيل جديد متعايش مع النمط الغربي، وبروز قيادات جديدة غير متشددة.. وحينها لا مانع عند الغرب من قبول إيران نووية، كما هو الشأن بالنسبة لباكستان، لأن تخوف الغرب الأساس يكمن في الاصطفاف السياسي لإيران ضد "إسرائيل" ومصالح الغرب ورعايتها لقوى المقاومة وتشكيلها لحلف "يهدد" حلفاء الغرب التقليديين، أي الأنظمة الرسمية العربية.
لم يكن الاتفاق حول الملف النووي الإيراني ليحظى بهذا الاهتمام الإعلامي والسياسي والدبلوماسي لولا أنه البوابة الرئيسية، أو لنقل بتعبير الفقهاء الشرط الذي يلزم من عدمه العدم وقد يلزم من وجوده الوجود، لاتفاقات كبرى حول ملفات أكثر تعقيدا تهم مستقبل المنطقة كلها.. وبذلك فالاتفاق حول الملف النووي مقدمة فقط.
كان ملفتا للنظر طيلة أطوار التفاوض حرص الطرفين على التذكير دائما بأن التفاوض لا يتعدى الملف النووي إلى غيره، وكان ملفتا كذلك في الأطوار الأخيرة بروز نوع من الانفتاح على مناقشة ملفات أخرى وفق شروط وحيثيات تتناسب وهذه الملفات.
استطاع المفاوض الإيراني استثمار أوراق قوته لجعل الاتفاق حول الملف النووي شرطا لكل تفاوض حول ملفات أخرى، وألزمت الضرورة باقي المفاوضين لفصل الملفات عن بعضها، وربما لابتزاز الأنظمة العربية أكثر، وربما لحاجة إدارة أوباما تحقيق إنجازات تاريخية كما هو الشأن في ملف المصالحة مع كوبا بعد أزيد من نصف قرن من القطيعة.
الطرف الثالث في هذه المعادلة هو العرب، وأقصد طبعا الأنظمة الرسمية العربية، وهم للأسف في حالة شرود، أو سوء تقدير لما يجري حولهم، أو في حالة انتظار لما يجود به الأمريكان عليهم متناسين أنهم لاعب أساسي في المنطقة ويملكون، هم كذلك، أوراق ضغط إن أحسنوا توظيفها.
تخوف العرب المبالغ فيه من الملف النووي الإيراني وتعويلهم الدائم على "الحليف الأمريكي" حجبا عنهم التقدير السليم لما ينبغي أن تكون عليه حركتهم، ولذلك فهم غير قادرين على استيعاب أن ما حدث في فيينا اتفاق على الملف النووي يفتح الباب لإمكانية تفاهمات حول ملفات أخرى.. والأمريكان ، في ظل إدارة أوباما، غير مستعدين لاستعداء إيران من أجل عيون الأنظمة العربية التي لم تجمع كلمتها بعد ولم تتجاوب إيجابا مع مقتضيات الربيع العربي ولم ترق إلى مستوى هذه اللحظة التاريخية وصارت عبئا على الإدارة الأمريكية ولم تستطع حسم كل الملفات التي تولت إدارتها في سوريا واليمن ولبنان ومصر وغيرها.
الكرة اليوم في الملعب العربي، والفرصة المتاحة اليوم قد لا تتكرر بعد شهور، والطرفان، الإيراني والغربي، يبديان استعادا للتفاوض على الملفات الشائكة في المنطقة، وهذا التفاوض غير مأمون النتائج، قد ينجح وقد يفشل، ولكنه حتما لن ينتظر حتى يستفيق العرب من غفوتهم أو يجمعوا كلمتهم لأن الكل مستعجل، والجميع يبحث عن حد أدنى من الاستقرار في المنطقة يضمن معه على الأقل استمراره.
هل باستطاعة العرب التخلي عن انغلاقهم والانفتاح على إيران، وهي أمر واقع وتتقوى يوما بعد آخر، في حوار غايته ضمان حسن جوار وصياغة تفاهمات حول الملفات الشائكة؟ هل إيران أكثر عداوة من "إسرائيل" التي تحرص هذه الأنظمة العربية على التوصل معها إلى اتفاقية سلام ويقدمون التنازل تلو الآخر لنيل رضاها؟ هل سيبقى العرب أسرى نظرة تاريخية بمفهوم التحالف مع الأمريكان رغم التحولات التي تعرفها أولويات الإدارة الأمريكية ومفهومها لمقتضيات العلاقة مع الدول العربية وحرصها على التعامل بمنظار طائفي مع هذه الدول؟
وحدها الشهور القادمة كفيلة بتقديم جواب عن هذه الأسئلة، ولكن حتما نحن على أبواب معادلات جديدة في المنطقة ستقلب كل الموازين إن لم يدخل على الخط لاعب ثالث لتحقيق نوع من التوازن.
ليس في هذا التحليل استعداء مجاني لإيران لأنها، على الأقل تشتغل وفق ما يحقق مصالحها، وليس فيه تعويل كبير على النظام الرسمي العربي لأنها أوهن من بيت العنكبوت، وليس فيه ثقة في الغرب الذي لا تهمه إلا مصالحه، وكل غايته هي الخروج الآمن والمشرف من مستنقع الشرق الأوسط بأقل الخسائر مع ضمان أمن حليفه الاستراتيجي الإسرائيلي.
المعول بالأساس على الشارع العربي في انتفاضة شعبية تعيد رسم ميزان قوى جديد بعيدا عن الحسابات الطائفية والولاءات التاريخية.