يفرض واقع الأمن بالبلاد ، في الفترة الاخيرة، وقفة تأمل حول أسباب التردي ودوافعه ودور كافة الفاعلين والمتدخلين ويأتي على قائمة المطلوبين للمسائلة، الدولة وأجهزتها الأمنية المختلفة. كيف وصلنا إلى هذا الوضع المقلق ولماذا يتشبث المسؤولون باحتساب ما يقع من أحداث، مجرد سلوكات ووقائع معزولة لا تهدد أمن البلاد، رغم صيحات الاستغاثة و اصوات الاستنكار في البوادي والمدن مما يقع من اعتداءات وجرائم في واضحة النهار وعلى مرأى ومسمع من الجميع ، تارة بالمباركة وتارة بغض الطرف وكأن شيئا لم يقع؟ يحدد عالم الاجتماع السويدي جنار ميرول، صاحب المفهوم، وضع الدولة الرخوة في عدة مظاهر لعل أبرزها وأهمها هو استشراء الفساد في المؤسسات وغياب ربط المسؤولية بالمحاسبة وعدم احترام القانون وعدم تطبيقه بل يتم تكييفه وتوجيهه لاجل الدفاع عن مصالح فئات معينة، حماية لنفوذها وثروتها. بشكل عام: تغليب المصلحة الخاصة للنخبة الحاكمة على المصلحة العامة للشعب بدأ الاعتقاد يسود بأننا في المغرب أمام نموذج فريد لهذا الشكل وهذا الوضع وبخصوصيات مغربية، كما هو حالنا دوما.فمظاهر الفساد عديدة لا حصر لها، تطال كل مناحي الحياة والرشوة متفشية بشكل يكبح كل محاولات النمو والتطور رغم التوصيات والمجهودات المبذولة في هذا الإطار من طرف بعض الهيآت الحقوقية الوطنية والدولية على وجه الخصوص. كما أن غياب ربط المسؤولية بالمحاسبة يغيب من قاموس ممارسة السلطة والشأن العام فتبدأ عملية الارتخاء لفائدة المصلحة الخاصة والفئوية الضيقة في كل الفضاءات بما فيها الحزبية والنقابية وحتى بين أوساط ما يصطلح على تسميته بهيآت المجتمع المدني، وكذلك الظاهرة المميزة للمغرب والمتمثلة في العائلات العابرة للقارات والمتعددة الجنسيات والتي يطرح بخصوصها مشكل المواطنة والوطنية بشكل لا تفقده مفاهيم حقوق الإنسان قوته. فزمن القلوب مع علي والسيوف مع معاوية، قد انتهى بما خلفه من جروح وشروخ في الجسد العربي وفي الإنسان بشكل عام. فإذا كانت المواطنة تقبل تعدد الثقافات والمشارب فالوطنية لا تقبل بغير الولاء التام ، الأول والاخير للوطن. لقد انسحبت الدولة بالتدريج من الكثير من قطاعات الخدمات العامة الحساسة بالبلاد ، من قبيل قطاعات النظافة والماء والكهرباء والنقل ووسائل الاتصالات واحتفظت في بعضها بحضور باهت رمزي واكتسح القطاع الخاص قطاعات خدماتية وانتاجية حيوية في البلاد وفي نفس الآن كانت الدولة تدفع جحافل رجال المال والأعمال لاكتساح المجال السياسي وإحكام القبضة على مراكز القرار في تسيير الشأن العام وطنيا ومحليا وتدفع طبقة المثقفين المسيسين وبعض العنيدين ضحايا صراع مضى على السلطة إلى الصف الثاني بعد أن جبرت خاطرهم بمبالغ ومناصب اختلفت من شخص إلى آخر حسب الأداء والانتماء والولاء. لقد تم، اقتسام الكعكة أو بتعبير آخر، حصل البعض على الكوميرا التي طالما ناضل من أجلها ودفع بعض رفاقه أو دربه للاستشهاد من أجلها. أخيرا تأبط كل واحد كوميرته وخرج.(للتوضيح: الراحل ادريس البصري كان أول من يفرق بين الخبز والكومير). أدت هذه المتغيرات إلى ظهور حكومات على مقاسات، في إطار توافقات ظاهرة وباطنة، تجمع بين النقيض وضده، حكومات هجينة وتحالفات لسد فراغات أو لسد الطريق على البعض وبين البعض ضد البعض الآخر. معارضة داخل معارضة ولا يجمع بينها سوى المعارضة، ومعارضة داخل الحكومة وائتلاف حكومي لا تؤلف بين مكوناته إلا المصالح والكراسي. لأول مرة في التاريخ، الوزير الأول، عفوا، رئيس الحكومى يشتكي موظفة في مؤسسة إعلامية حكومية إلى الشعب والشعب يشتكي رئيس الحكومة إلى الموظفة نفسها ...؟؟ الوزراء يفوضون اختصاصاتهم إلى الكتاب العامين، مرغمين، ورجالات السلطة المحلية متورطون في تفويت امتيازات و نفخ لوائح المستفيدين من السكن والدعم والمساعدات الإنسانية والإنعاش. أموال صناديق الدولة تختلط لدى المواطن العادي بميزانية الدولة، لم نعد نميز بين المشاريع التنموية لهذه الصناديق وبين مشاريع مخططات الحكومة، الأمر أشبه ما يكون بدولة داخل الدولة. رجالات السلطة التشريعية يتصيدون بعضهم البعض، في الفنادق وفي الحانات والمهرجانات وفي دور العرض وفي المساجد. في ظل هذا الخلط واللغط والتقاذف والتلاسن بكل شيء والانشغال بتافه الأمور على حساب القضايا المهمة للغالبية العظمى من الشعب والمتمثلة في عدالة حقيقية و شغل ضامن للكرامة وفي الصحة وتعليم يستجيب لحاجيات البلاد وتطورات العصر، بدأ الإحباط والتذمر واليأس يدب في النفوس من الإصلاح والتغيير في سبيل اقتسام عادل لثروات وخيرات البلاد، كل حسب حاجته وقدراته وعطاءه.على النقيض من ذلك ، ازدادت الفوارق اتساعا بين طبقة غنية ، أسماء عائلاتها معدودة على رؤوس الأصابع وأغلبية من الشعب تزداد فقرا وحاجة بل وفاقة، يوما بعد يوم . وأصبح نصيب المواطن من الناتج الداخلي العام للبلاد، يعد من الأضعف عالميا بحيث يأتي المغرب في الصف الرابع مباشرة خلف دول السودان واليمن وموريتانيا. فلمن تدق أجراس مشاريع الصناديق السيادية ومشاريع الحكومة إذن؟ لقد أصبح حضور الدولة في حياة الناس حضورا شكليا وفولكلوريا و تشكلت جماعات ، تحولت في بعض أجهزة الأمن من ضامنة للأمن والاستقرار للجميع إلى أشبه بمليشيات تؤدي خدمات حماية تحت الطلب لمن يدفع أكثر. لقد بدأت البلاد تعرف نوعا من الفراغ الأمني، لم يعد مقبولا، اليوم، في ظل التهديدات الإرهابية والظروف السياسية الإقليمية والدولية وكذلك في ظل التطور التكنولوجي، على مستوى الاتصالات والسمعي البصري وكذلك تطور وسائل النقل والمواصلات، وإن كانت لا ترقى إلى المستوى المطلوب، لكنها تمكن ،بتوفر الإرادة الحقيقية لدى الأجهزة المعنية، من الحضور في كل الأماكن والمساحات من اجل ضمان الأمن وتطبيق القانون وترسيخ سلطة الدولة. لقد تحولت سياسة الحذر وتفادي المواجهة والتريث ريثما.... تمر عواصف الخريف أو بالأحرى الخرف العربي، والحياد السلبي إزاء أحداث بعينها ، تحولت هذه السياسة إلى قاعدة و بدأ الارتخاء يدب في أوصال الدولة وشرعت الأبواب على المجهول في وجه الانتهازية من كل حدب وصوب. إن ما يعتبره البعض، اليوم، حالات معزولة، مرتبطة بأوضاع محلية، اجتماعية أو دينية، من قبيل حادثة فتاتي إنزكان وحادث مثلي فاس وأحداث متفرقة لمثليين آخرين ونساء أخريات بمناطق مختلفة ومتفرقة من البلاد، بأكادير، طنجة، مراكش وغيرهم، هي محاولة إخفاء الشمس بالغربال. فقبل يومين، أي بتاريخ 17 يوليوز 2015، تناقل مرتادوا شبكات التواصل الإلكتروني شريطا مصورا على درجة مقززة من البشاعة والهمجية لما سمي بعملية رجم سارق في أحد الأسواق بقرية بوميا بضواحي ميدلت ، انتهت بقتل الرجل المرجوم ، وتتحدث الأخبلر الواردة من عين المكان بأن الأمر يتعلق برجم رجلين، أحدهم لقي حتفه على الفور والآخر يصارع الموت في المستشفى. أحداث ووقائع من هذا القبيل وأخرى تحدث يوميا وبوثيرة مخيفة ، حتى إنه وصل الحد في بعض المناطق بالبوادي إلى خلق دوريات من المتطوعين من السكان أنفسهم لأجل حماية أنفسهم ومساكنهم و مواشيهم من غارات عصابات مدربة تهددهم. أما على مستوى المدن والمراكز الحضرية، قبل الترييف، فخيام الخضارين، والجزارين والعطارين وبائعي السمك المعطر وكل المهن والحرف التي لا تخطر على بال أحد، منتصبة ليل نهار في الأزقة والشوارع الرئيسية والدواب رابضة في الحدائق والساحات العمومية، بل إن عائلات حديثة العهد بالهجرة اتخذت بهذه الفضاءات مساكن رئيسة، يتبولون ويتغوطون في الشارع العام ويتناسلون وتتناسل بهائمهم على مرأى ومسمع من الناس الذين لا حول لهم، وعلى مرأى ومسمع من السلطة، الغائبة كليا. وفي المقابل وغير بعيد ما إن تنعطف بسيارتك ذات اليمين أو ذات الشمال حتى توقفك فرقة من البوليس أو الدرك مدججة بكل أنواع السلاح والمعدات من راديو ورادار، ليطلبوا أوراق السيارة وأوراق التعريف ويخبروك بأنك كنت في وضع مخالف للقانون، لم تعط حق الأسبقية لعربة مجرورة ببغل ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وغير بعيد كذلك ،خارج المدار، وإذا كنت تستقل سيارة أجرة كبيرة، قد تصادف حاجزا على الطريق، لقوات خاصة جدا، لا تخف إنه ليس حاجزا وهميا كذاك الذي يقام على طرقات بالجزائر ومصر وتونس وليبيا واليمن ودول عربية وإفريقية أخرى، أصحاب هذه الحواجز ليسوا مسلحين ، حتى إشعار آخر، إنهم أصحاب الطاكسيات، يسهرون على تنظيم المرور والحرفة ويدققون هويات السائقين. إن الدولة الرخوة آخدة في التشكل إن لم تكن قد تشكلت ، فعلا ، في غفلة منا جميعا، ومن باب العبث و الهروب إلى الأمام أن نعزو هذه المظاهر إلى ظروف الخرف العربي ،التي فرضت نوعا من التساهل والمرونة الزائدة في التعامل الأمني مع الشارع، لأن الأمر لا يرتبط فقط بالجوانب الأمنية ، هذه الأخيرة ليست سوى الشماعة التي خلقت ليعلق عليها المستفيدون الحقيقيون من الوضع، معاطفهم، من أجل النهب والسرقة والاستفادة من الوضع بخلق مشاريع تنموية وهمية وتحويل وتهريب الأموال و ثروة الشعب إلى خارج الحدود، حيث لهم أوطانهم وانتماءاتهم الأخرى وآخرون ينخرون أسس الدولة وقواعدها في صمت في انتظار لحظة الانقضاض الحاسمة.