هناك سؤال محير في ديباجة الدستور المغربي المعدل سنة 2011، يتعلق ببعض المجالات القانونية التي يبدو التفصيل فيها والتركيز عليها ، واضحا دون غيرها من المجالات الأخرى، فبقدر ما يغلف الغموض بعض الفصول في دستور 2011 وخصوصا مضامين الفصول المتعلقة بالحريات العامة وحرية التعبير والصلاحيات، وقضايا الإصلاح ومحاربة الفساد وحماية الثروة العمومية، بقدر ما يبدو الوضوح صادما في بعضها الآخر،ولعل هذه الخصوصية التقطتها العين المجردة في نصوص الدستور الجديد بمزيد من العناية والتدقيق، فاستنسختها في مشاريع قوانين تكتسي أهمية حقوقية كبرى، كقانون الصحافة والقوانين المرتبطة بالحقوق العامة والحريات، ودسترة المقترحات الإصلاحية ذات البعد المدني ومدونة القانون الجنائي والمسطرة المدنية وغيرها، حيث التفت واستدارت سلطة المشرع، على العديد من المكتسبات التي تتعلق بالضمانات التحررية وحماية الحقوق المدنية وتوسيع الهامش الديمقراطي وإشراك الهيئات المدنية في تدبير الشأن العام وشؤون الحكامة.
وعلاقة بذلك يبقى السؤال المطروح في هذا المقام مرتبط بالكيفية التي أفرد بها الدستور المغربي في الفصل المائة من الباب السادس الذي ورد تحت عنوان، "العلاقات بين السلط "، نصا قانونيا مستقلا بصياغة دستورية نهائية يخص مساءلة رئيس الحكومة شهريا حول حصيلة عمله الحكومي؟
أولا ؛ نطرح سؤال لماذا يعتبر هذا الإجراء تنزيلا دستوريا قبل الأوان في حين يسجل التغاضي المستمر الذي لربما سيستمر حتى نهاية الولاية الحكومية، عن تنزيل القوانين الدستورية كاملة في شموليتها وخصوصياتها القانونية، وحصيلة ذلك ما توجد عليه مدونة القوانين العامة من تناقض تعاني منه الإدارة المغربية وقطاع القضاء والأجهزة التنفيذية على اعتبار أن القوانين المعمول بها الآن لا تستمد قوتها من مضمون الدستور الجديد، دستور 2011، في حين تشتد أزمة الفراغ القانوني المنبثق عن دستور 1996، حين تبدو الحاجة ماسة للإحاطة بموضوع مرتبط بتطبيق القانون في حيز له علاقة بتنظيم المجال المؤسساتي او تطبيق القوانين، حينها تتطلب العملية سباقا محموما مع الوقت لتنزيل فوري يلائم الحالات وهو ما حدث في الشهور الماضية القليلة لسنة 2015 ،حين بدا من الضروري تحين القوانين الانتخابية المتعلقة بعملية انتخاب المجالس المحلية والجماعات؟
ثانيا؛ ما جدوى نص دستوري يفرض على رئيس الحكومة المثول شهريا أمام الغرفتين البرلمانيتين، ليقدم أجوبة عن أسئلة واستفسارات، تتعلق بالشأن العام والوظيفة الحكومية وتدبير المؤسسات الرسمية وأحوال البلاد والعباد؟ وهي استفسارات وتوضيحات يمكن أن تقدمها وزارة الاتصال كل يوم كما تفعل على مدى سنين؟ وللتساؤل مرة أخرى، هل في بحر شهر قمري، أي ثلاثون يوما كاملة، يمكن الإحاطة زمنيا بتحقيق منجزات حكومية تستحق أن تناقش تحت قبة البرلمان ومن رئيس الحكومة شخصيا؟
الأكيد أن هناك قناعة راسخة بجدوى الاستثناء المغربي في كل شيء، والمهوسون بهذه القناعة يفرضون حتميتها لينتقل بموجبها الخيار السياسي في المفاهيم المتداولة من النقيض إلى النقيض، كلنا نتذكر، كيف تم وصف التصريح الحكومي لعبد الرحمان اليوسفي في 14 أبريل 1998 بالتافه وغير المجدي، لقد اعترض على جاهزيته نواب من أطياف سياسية متعددة ونعتوه "بالبدعة السياسية" والاجتهاد غير المرغوب فيه. تلك الأحزاب التي قالت ذلك في إبانه، هي نفس الأحزاب التي تتهافت الآن على تعجيز رئيس الحكومة الحالي والنيل منه في الجلسة الشهرية العتيدة ، نفس الأطياف السياسية التي قدحت في مبادرة اليوسفي ووصفت الخطوة الأولى على درب الديمقراطية والشفافية سنة 1998، "بالبدعة السياسية التي ما أنزل الله بها من سلطان"[1].علما أن مساءلة رئيس الحكومة أو من يقوم مقامه، من قبل المعارضة،هو من صميم العمل الديمقراطي،وهو عرف معمول به في برلمانات الدنيا العريقة،لكن إجراءاته جد مقننة،ومثول الوزير الأول أو رئيس الحكومة أمام نواب الأمة ليجيب على أسئلة النواب،يأخذ مجرى عادي مقارنة بالأحداث والإنجازات التي تعرفها البلاد، يبدو حسب الدساتير المتقدمة أن لا ضرورة في إحضار المسؤول الحكومي الكبير كل شهر لمساءلته. فبسبب الروتين المتعمد تفقد جلسة الأسئلة ،تلك ، مضمونها الوظيفي،وتصير فائضا في أشغال البرلمان، لتتحول إلى مجرد إحضار قسري لرئيس الحكومة في لقاء لا يكتسي الأولوية المؤكدة في أجندة الرئيس،فيحضر ومعه أجوبة جاهزة لأسئلة يجيب عنها مرارا في الجلسات العادية للبرلمان، وزراؤه في الحكومة.وغاية المكر في هذه الحالة هو تحويل التصريح الرئاسي إلى مرافعة سياسية تحمل انطباع الطيف السياسي الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة وهو غاية الضحك على الذقون لمن يستحق ذلك من خصومه السياسيين لأنه يحقق فتحا ويكسب المزيد من التأييد الشعبي.
ثالثا؛ يقول الفصل 100 من الدستور ما يلي: " تقدم الأجوبة عن الأسئلة المتعلقة بالسياسة العامة من قبل رئيس الحكومة، وتخصص لهذه الأسئلة جلسة واحدة كل شهر، وتقدم الأجوبة عنها أمام المجلس الذي يعنيه الأمر خلال الثلاثين يوما الموالية لإحالة الأسئلة على رئيس الحكومة" ويقصد بالمجلس الذي يعنيه الأمر، مجلس النواب أو مجلس المستشارين.
الجانب المسطري من هذا السؤال، يتعلق بالشق القانوني لتقديم الأسئلة والإجابة عنها ويخص المدة القانونية والأسباب الوجيهة التي تتطلب حضور رئيس الحكومة إلى البرلمان ليجيب على أسئلة النواب. فرئيس الحكومة أو الوزير الأول في فرنسا او إنجلترا وفي دول أخرى عريقة في الديمقراطية، لا يجد نفسه مجبرا على المجيء شهريا إلى غرفتي مجلس النواب ومجلس الشيوخ ليتحدث عن منجزاته خلال شهر واحد ويقدم الحساب أمام المعارضة عن حصيلة عمل لا يمكن إنجازه ولا حتى الشروع فيه، نظرا للحيز الزمني الذي يؤطر وظيفة الحكومة خلال هذا الإنجاز أي شهر من الأيام، ولأن الأمر سيتحول حتما إلى حلقة للفرجة واستعراض البلاغة اللغوية وملء الفراغ [2]؟
إذن ما الذي سيقوله رئيس الحكومة للنواب عن حصيلة شهر من العمل الحكومي؟ وهل يعتبر شهر مدة زمنية كافية لوضع مخطط عمل والشروع في تنفيذه ثم عرض حصيلته الحكومية على نواب الأمة؟ بينما تتخذ المساءلة الطابع السياسي الهجين لتصيد هفوات الكلام عند رئيس الحكومة وتتحول الجلسة -كما قال محمد الساسي- إلى حلبة لتبادل اللكمات والضربات تحت الحزام.
إن مثل هذا الإجراء جلب مزيدا من العبث السياسي والتراخي الذي طبع مؤسسة تشريعية على مستوى كبير من الضعف، وأداؤها التشريعي لحد الساعة، يبقى أدنى أداء عرفه البرلمان في المغرب منذ وجوده كجهاز يبث القوانين ويصنع التشريعات.في حين يوجد أمام البرلمان وهو وليد حكومة حراك شعبي؛ دستور جديد، لم يواكب لا البرلمان ولا الحكومة تطلعاته الدستورية في التنزيل والعمل على ترجمته ترجمة قانونية تضع المحددات الأساسية لممارسة الحياة المدنية والسياسية للأشخاص والهيئات.بل إن كل ما يجري في ساحة النقاش السياسي بين الحكومة وبرلمانها ذي الغرفتين، هو السفسطة الزائدة عن اللزوم وإفساح المجال لنواب يتمتعون بثقافة سياسية جد متواضعة ونقص هائل في المعرفة والإبداع والتجديد..فالأكيد أن الدستور يحتوي على عدة ثغرات وكثير من النقائص والمنتظر أن تعالج لجنة القوانين مسألة تعديل الدستور مرة أخرى وتطعيمه وستكون الفرصة سانحة لإلغاء من خلال مشروع قانون الفصل 100 من الدستور ويعوضه بقانون مساءلة رئيس الحكومة دوريا أو عند الضرورة كما يفعل في الديمقراطيات العريقة.
[1]تصريح لنائب من حزب الاتحاد الدستوري ورئيس الفريق آنذاك السيد عبد العزيز المستاوي.
[2] في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر 2014 زار المغرب رئيس كوريا الجنوبية وقدم رأيه أمام الصحافة في حوالي دقيقتين أوجز فيهما نظرته حول التعاون الكوري المغربي اقتصاديا وصناعيا، في حين قدم رئيس الحكومة المغربية خطبة عصماء من حوالي 35 دقيقة لم يقل فيها كل شيء ..؟