شهد الشارع المغربي في الآونة الأخيرة حراك شعبي بسبب ما أصبح يطلق عليه "صاية" انزكان، احتجاجا على متابعة "سهام وسناء" بتهمة الإخلال بالحياء.
وإذا كان من الطبيعي أن يستنكر المغاربة اجتياح حرية الشباب بخلفية ثقافة تعصبية ظلامية، فإن المخاض الطويل من الدولة الدينية إلى الدولة المدنية، وأزمة الميلاد السياسي المتنور، وإعادة البناء الاجتماعي في أفق الديمقراطية والحداثة، من العقبات التي لازالت تطالبنا بإسهام حقيقي في معركة تحويل الشحنة العاطفية النموذجية إلى مساهمة في تثبيت فكرة الوطن والمواطن، وتخليص المغاربة من حمى "الشيخ ألظلامي" والتمسك بالحقوق، وعدم تجزيئها، وسيادة القانون.
إن ما تعرضت له فتاتي إنزكان بات يسائلنا عن حقيقة ما يحدث في بلادنا من تراجع خطير على مستوى المس بحقوق الأفراد والجماعات، فماذا عسانا أن نقول؟
إن هذا الحدث الرجعي، يذكرنا بنفس الحدث الذي شهدته الشقيقة الجزائر في شهر ماي من السنة الجارية، حين أثارت "التنورة" القصيرة جدلا واسعا بعد منع طالبة من دخول الامتحان بسبب تنورتها.
وبسرعة قياسية، تحولت قضية "التنورة" إلى قضية رأي عام انقسم حولها الجزائريون إلى معارض ومؤيد، بين الحداثيين ورجال الدين..والنتيجة هي حرمان الطالبة من حقها في اجتياز امتحانها في كلية الحقوق، بسبب الموقف من "السيقان".
ولقد اعتبر العديد من المتتبعين من داخل الجزائر ومن خارجها موضوع تحويل جسم المرأة إلى "ساحة معارك"، دليلا على ضرب حرية النساء وتشجيعا عل العنف ضدهن، خاصة بعدما اعتبر رجل الدين الجزائري عبد الفتاح حمداش أن الطالبة أساءت إلى المجتمع من خلال خروجها من بيتها بلباس غير محتشم، بل واعتبر رجال الدين أن من ساند الطالبة فهو خارج الشريعة.
والواقع أنه إذا كانت جميع هذه الأوصاف الحقيرة قابلة للتبرير، في خاتمة مطاف أنصار الرجعية والتخلف، بما دلل عليه الأسلوب الشيطاني النكوصي من عجز عن الوصول إلى هدف من أهدافهم، ومن فشل في انجاز أية نقلة نوعية وكيانية بالمجتمع المنشود، فإن المسيرة التحررية النسائية، هنا وهناك، غير قابلة للمساومة، وبالوجود النضالي والكفاحي للتقدميين، على أرض الواقع، لن تتخلى عن دعم حركة التقدم في شموليتها.
إن ما يعيشه المغرب اليوم، يمثل مفصلا حاسما من مفاصل التطور في الصراع بين تجار الدين ومن يساندهم في أجهزة البنية الفوقية من جهة، وبين من يعشقون الحرية ويناضلون ضد كل مساس بحرية الأفراد والجماعات في كل المستويات والميادين من جهة أخرى.
هذا المفصل تجسده اليوم "قضية سهام وسناء"، وهو نقطة بزوغ قوة حقيقية وطاقات هائلة جديدة، عنوانها التحرر والديمقراطية حتى وان كانت التنورة والفستان رموزهما.
إن دور المرأة البارز في كل القضايا التحررية، كان ولا يزال دورا مركزيا ومحوريا في عملية بناء مجتمع مستقل ومتحرر من أي نوع من الاحتلال الفكري والاستبداد السياسي.
لقد عانت المرأة الفلسطينية هي الأخرى من نفس الممارسات في عز الانتفاضة، حينما كانت تقذف غير المحجبات بالبيض، رغم مناصرة الديمقراطيات والتقدميات واليساريات والمستقلات للانتفاضة أو مقاومة الحصار اللبناني أو أثناء حرب الخليج أو دعما للمهدي عامل ونصر حامد أبو زيد وفرج فودة...
إن ما فجرته "التنورة" من غضب، يؤكد معاناة المرأة المغربية مع القهر الاجتماعي ومع كافة الأسباب المؤدية إليهما والتي تتضمن بالضرورة الاستغلال الطبقي.
وإن عشقها للفستان المغربي التقليدي منه والعصري يؤكد اختيارها الديمقراطي المرتبط بحقوقها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية كحق من حقوق الإنسان.
إن المرأة المغربية لم تعد تقبل النضال الخيري الذي يقتصر على وضع المرأة وحقها في التعليم والأكل والسكن والرعاية الصحية، بل تريد أن تلعب دورا سياسيا وتفرض مشاركتها في كل الرؤى والأهداف.
إن قصة "التنورة"، قصة مفتعلة من طرف الفاشلين، والمرضى الذين يسكنهم هاجس الخوف من شعار التنمية الشاملة للمرأة، ومن التقدمية كرؤية مستقبلية لعالم تسوده العدالة والمساواة والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
إن من يعتبر "التنورة" تعري وكشف لـ "سيقان" المرأة، ومن يعتبر أن جسم المرأة كله عورة، ومن لا زال يربط الأخلاق بالملابس، ومن ينظر إلى عيون المنقبات كشيء يخطف الأبصار، فيجب أن يعرض نفسه على إحصائي في الأمراض النفسية.
أخيرا، مهما تعددت فرائض سماسرة الدين، لا بد من التذكير بثقافة ومنطق الاستحقاق، وأن المؤمنون بالحرية وبالديمقراطية والحداثة، هم من يؤسس اليوم لفضاء الابتكار والإبداع، من أجل تأسيس وعي نقدي تسنده "تنورة" الحرية و"فستان" الديمقراطية.
ولأن الصمود في وجه النكوصية، ممارسة نضالية يومية، فإنه ثقافة موصولة بالحياة وبنبل الأفكار والمواقف..ضد الاستهجان والابتذال.