يوجد المغاربة، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، في أشد الأوضاع سوءا وقسوة، ويمكن أن نختار لهذه الأوضاع عنوانين بليغين: الخذلان وانسداد الأفق.
للعنوان الأولى معنى سياسي ـ ديني واضح، فالحزب الذي يقود الأغلبية الحكومية، إثر الاستحقاق الانتخاباتي التشريعي لسنة 2011، كان قد احتل صدارة النتائج اعتمادا على خطاب تحتل فيه المرجعية الإسلامية المكان الأساسي. وليس سرا أن أغلبية الكتلة الناخبة التي شاركت في الاقتراع (نسبة المشاركة لم تتعد 34 في المائة بالمغرب)، لاعتبارات ذاتية وموضوعية، قد وضعت رمز المصباح في الصناديق، أملا في تحقيق التغيير، خاصة أن «البراغماتية» المركزية لحزب العدالة والتنمية كانت قد اعتمدت في حملاتها الانتخابية، على كلام الله ورسوله، وعلى ادعاء «طهرانية» الأطر التي لم يسبق لها أن تورطت في إدارة الشأن التنفيذي من قبل. وهذا ما جعل المغاربة يعتبرون أن حاملي المصباح هم «الصالحون» الذين «إذا وعدوا وفوا». ولذلك انتظروا مرور مائة يوم لتظهر بعض تباشير التغيير الموعود، وهو ما لم يظهر منه أي بصيص نور. واليوم تمر أكثر من 2000 يوم دون أن يتحقق شيء سوى النكبات والنكسات والإخفاقات والفضائح. ولذلك لن تكون الخذلان سوى الكلمة الأكثر تعبيرا عن الصدمة وخيبة الأمل وفقدان الثقة.
وإلا فلماذا خالف «البيجديون» وعودهم الانتخابية وبرامجهم الحكومية من قبيل فتح ملفات الفساد، وإيقاف نزيف الريع وتحقيق التنمية المنشودة والرفع من الناتج الداخلي الخام وإحداث فرص الشغل؟
لماذا تتحايل الحكومة على مواطنيها في حل مشاكلها بتبني تدابير من قبيل تجميد صندوق المقاصة، ومن التهجم الفظيع على جيوب المواطنين وعلى طاقتهم الشرائية، ومن قبيل تأجيل الوعود الكبرى الحاملة لمضامين الرخاء الاقتصادي وتمتيع المغاربة بحقوقهم الطبيعية في الشغل والتطبيب والتعبير...؟
ويتخذ هذا التحايل كل الصيغ الانتهازية المتاحة. فعوض التجاوب مع مطالب رجال التعليم مثلا، تقدم الحكومة على ضرب الحق الدستوري في الإضراب، وعوض الرفع من الأجور تنادي بتحرير السوق بشكل متوحش، وترفع نسبة الضرائب على التقاعد، وعوض تعبئة الشعب المغربي حول مشاريع تنموية كبرى صارت تتولى مهمة إنتاج «السيتكومات» الحكومية الهزلية لإلهاء الشعب على النحو الذي وضحناه في العدد الماضي، وعوض أن تكون للحكومة، بمختلف مكوناتها، جرأة مواجهة الأوضاع بقرارات حازمة وجريئة قد يكون من بينها الاستقالة إذا ما صح أن تحارب فعلا من طرف من تدعي أنهم دهاقنة الدولة العميقة، والأشباح والعفاريت. عوض ذلك تتمسك بالكراسي ومستتبعاتها من امتيارات، وليشرب المغاربة البحار.
أما العنوان الثاني للأوضاع الحالية المزرية فهو انسداد الآفاق. ذلك أن الحكومة بدل أن تستقيل فعليا إذا كانت لها بالفعل دواعي موضوعية، قررت أن تستقيل من شؤون الوطن والمواطنين، وهو الأمر الذي نتجت عنه كل مشاعر الإحباط لدى القطاعات الواسعة من المواطنين الذين صار المستقبل أمامهم أسود، بعد أن تأكدت أن الذين يحكمون شؤونهم التنفيذية هم «جماعة من الكذابين» الذين خافوا ما وعدوا الله والمواطنين به، ولا يزالون متمادين في غيهم، بلا رأفة ولا رحمة بالمغاربة العزل إلا من الحلم بوطن ناهض.
أمام الخذلان وانسداد الآفاق قد يراود المغاربة الأسئلة الحارقة التي لا بد منها: والآن ما العمل؟
هل ينقلبون على المسطرة الديمقراطية، ويخرجون إلى الشارع، وهم يعرفون أن هذا الاختيار محفوف بكل المخاطر على الوطن والمواطنين لأنه سلوك قد يكون أرعن بالنظر إلى أن أطروحة الانقلاب لا تتماشى مع آليات البناء الديموقراطي التي اختارها المغاربة منذ تبني المسلسل الديموقراطي في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وكذلك بالنظر إلى المآل الذي انتهت إليه بعض أغلب التجارب المريرة التي نتجت عن رياح ما يسمى «الربيع الأصولي»؟
هل يحزم المغاربة حقائبهم، ويقررون القيام بعملية «حريك» جماعي، وهم يعرفون أن هذا الاختيار لا اسم له سوى الجبن. ثم إن من غير المعقول أن يهاجروا أوطانهم ليتركوها للمجهول؟ إن الاختيارات مثل الآفاق منسدة. وقد تضاعفت الآثار الشرسة لهذا الانسداد بعد أن تعرض المغرب لسلسلة متواصلة من الفضائح الناتجة عن شطط الإنسان مثل مثل شوهة «الكراطة» و»الشكلاط» و»بيت النعاس» وقصة الحب داخل دهاليز الحكومة. وقد انضاف إلى ذلك آثار الغضب الناتجة عن اندلاع سلسلة من الحوادث المرعبة، بدءا من كارثة طانطان التي ذهب ضحيتها، وانتهاء بفضيحة تسريب امتحان الباكلوريا مرورا بغرق أطفال بنسليمان ضمن كارثة شاطئ مصب وادي الشراط، وإنتاج أول فيلم بورنوغرافي، وتدنيس عاهرات «فيمن» لمسجد حسان، وتكالب منظمات حقوقية دولية ضد المغرب لدواعي سياسية أكثر منها حقوقية، وإهانات تتعرض لها البلاد على يد مسؤولين أوربيين دون أن تتحرك الحكومة لرد الصاع صاعين. هذا دون الحديث عن التسريحات الجماعية من المعامل وانهيار القدرة الشرائية لأوسع فئة من الشعب.
أمام كل ذلك يعيش المغاربة اليوم عزلة غير مسبوقة، فهم غرقى، والحكومة والنخب الهشة تكتفي بالتفرج، ولذلك لا نفاجأ غدا حين نجدهم قد يلجؤون إلى اختيار سلمي، ويقررون قراءة اللطيف ليحتموا به من النكبات التي حلت بهم منذ أن ابتلوا بحكومة بنكيران، إحياء للتقليد التاريخي الذي تبناه المغاربة على امتداد تاريخهم العريق لدرء الضرر، وللتضرع إلى الله لإيقاف مسلسل العبث والنفاق والخذلان.
ربما سيكون هذا هو الاختيار الملائم لمغاربة اليوم بعد أن سلبتهم حكومتهم كل إمكانيات الأمل. فاللهم يا لطيف، الطف بنا في ما يفعله بنا السفهاء وبنكيران و«رباعتو»... إنك مستجيب الدعاء.
عبد المالك إحزرير، أستاذ العلوم السياسية بجامعة مولاي اسماعيل
ما أحوجنا لـ «اللطيف» ومخرج من الله للنكبات التي تجاوزت بنكيران وحكومته
أكد عبد المالك إحزرير، أستاذ العلوم السياسية بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، على أن «اللطيف» ظاهرة متجذرة في تاريخ المغرب، أي منذ أن أرساها عبد السلام بنمشيش الذي يعد أحد مؤسسيها إلى جانب تلميذه الشاذلي، مضيفا في حوار مع «الوطن الآن» أنها كانت الملجأ الذي يحتمي به المغاربة كلما لحقت البلاد نكبة من النكبات مهما كانت طبيعتها، سواء تجسدت جفافا أوطاعونا أو توفيسا أو حتى استعمارا. أما في وقتنا الحاضر، يشير الدكتور إحزرير، فإن الوضع اختلف وطغت عليه الرداءة السياسية والتيه.
- كيف يمكن أن تضعنا في الإطار العام لمسألة «اللطيف» بالمغرب؟
+ «اللطيف» ظاهرة متجذرة في تاريخ المغرب، أي منذ أن أرساها عبد السلام بنمشيش الذي يعد أحد مؤسسيها إلى جانب تلميذه الشاذلي، حيث لا يجب أن نغفل أن لبلدنا مرجعية دينية وأخرى صوفية، تتداخلان في ما بينهما. وبتوضيح أكثر، يمكن الحديث عن مرجعية حجازية تنتمي إلى المدينة المنورة والإمام مالك، أو ما يسمى بالتفسير الظاهري للقرآن والسنة. فأخذنا عليه الجانب السني رغم أن الدين الإسلامي جاء عن طريق آل البيت والمولى إدريس الأول الذي استقر بزرهون. كما يجب الانتباه في الوقت نفسه إلى أن وكما لدينا جيل من العلماء، لنا كذلك أجيال من المتصوفة قدموا عبر بغداد والجُنيد الذي كان من آل البيت، ودرس على يد عبد القادر الجيلالي، فجاء عبد السلام بنمشيش، كما أسلفت، قبل نحو 10 قرون، لتترسخ بذلك ثقافة الزوايا.
- ما الفرق بين السنة كمذهب والتصوف كسلوك مع أن الله واحد والدين واحد والرسول واحد؟
+ الفارق يتحدد في أنه إذا كانت السنة تنشر في المساجد، فإن التصوف ينشر من خلال الزوايا، وهو لا يكتفي بإقامة الصلاة وصوم رمضان وما إلى ذلك من الواجبات الدينية، وإنما يتعداها إلى الاستعانة بذكر الله، ومنه ذكر اللطيف بأسمائه الحسنى. فكان كلما لحقت البلاد نكبة من النكبات، إن كانت جفافا أوطاعونا أو توفيسا، إلا ومورس هذا الطقس. علما بأنه كان لهذه الظاهرة تراتبية يجسدها أهل الله والعارف بالله والوالي. كما كان الاعتقاد السائد وقتها هو أن العارفين بالله أو الكُمل يتوفرون على اسم من أسماء الله يقرؤون به ويطلبون بمعيته المولى عز وجل بأن يزيل الأقدار السيئة عنهم، مهما كانت طبيعتها، سواء مرضا أو وباء أو قحطا أو حتى استعمارا. لذلك كان اللجوء إلى هؤلاء دون غيرهم من العلماء لتلاوة ورد قد يكون من 125 مرة إلى 16 ألف مرة إلى 25 ألف مرة. بل حتى البلاط السلطاني، للإشارة، كان يضم بالإضافة العلماء أهل الله، مع ما كان يتميز به هذا الوضع من خوف العلماء وخشيتهم من القارئين للطيف.
- الآن وبعد مرور كل هذه القرون على ظهور البوادر الأولى لقراءة اللطيف بالمغرب. كيف تنظر له في وقتنا الحاضر؟
+ دعني أقول بداية بأننا صرنا في وقتنا هذا نعيش زمنين وكلاهما سلبي. زمن الرداءة السياسية، وزمن التيه، بحكم أن العديد من المغاربة لم تصبح لديهم عقيدة قوية، صحيح أنها سليمة إنما تعتريها الهشاشة والضعف. وهذا يقودنا إلى ضرورة التشديد على ضلوع صيرورة التحديث في تثبيت هذا الوضع. فأصبحنا نؤمن بالتقاليد لا بالعقيدة، أو بعبارة أدق فصل العقيدة عن الدين كما هو شأن حال أوربا. وهذا ما كان قد توصل إليه دوركهايم عندما حدد الظاهرة وربطها بمنهجية إحصائية تفيد بأن لسببها المباشر لما يشعر به الفرد الأوربي من إحباط ويأس. وللأسف نلاحظ تسرب ما خلصت إليه هذه الدراسة إلى مجتمعنا، بعد أن كانت، ليس الذاكرة الجماعية فحسب، وإنما العاطفة الجماعية كذلك تجد في ذلك «اللطيف» متنفسا لضائقتها كيفما كانت طبيعتها أو مستوى حدتها. وهنا أود أن أتوقف لأعرج على عهد الملك الراحل الحسن الثاني، والذي كان بلاطه الملكي يأوي رجال السياسة ورجال الدين، وأيضا رجال الذكر. فنجد علال الفاسي وعبد الله كنون، وأفكار المختار السوسي والمكي الناصري. والأمر عينه ينطبق بالخصوص على المستشارين الذين كانوا ملتحمين بالجوانب الدينية والعقيدة أكثر من التشبث بالجانب الدنيوي، ولنا النموذج في بنسودة وعواد الذي دفن بالقرب من قبر سيدي عبد الله بنحسون، وفي ذلك أكثر من دلالة ورمزية تشير إلى دنوه من الذكر.
- ما هي الأسباب التي أدت بنا في نظرك إلى أن نفتقد هذه الدلالات؟
+ خلفية هذا الخفوت تعود بالأساس إلى طغيان التيار الوهابي الذي دخل بلادنا، معتبرا التصوف بدعة. فالوهابي كما هو معلوم، يصلي ويصوم ويحج، لكن لا يقوم بالدعاء ولا بالذكر. ومع ذلك، هناك ما هو أخطر منه، والمتمثل في التيار العلماني الذي يهدد بشراسة كل ما هو عقائدي وروحاني. وفي هذا السياق، ألفت إلى ما سبق للمغفور له الحسن الثاني أن أجاب به محاوره إيريك لوران في كتاب «ذاكرة ملك»، حين قال: «ليس هناك ما يخيفني على هذا البلد أكثر من الخوف عليه من العلمانية». لأنه وفي كل الأحوال، لما كنا في صراع مع اليسار، فقد كان الأخير يتكون من أناس يميلون للمذهب الاشتراكي أو الشيوعي، فضلا على كونهم يحضرون العقيقة ويؤدون مناسك العمرة، يقيمون الصلاة ويصومون رمضان. لكن الإشكال متأصل في العلماني الذي ينقطع عن الفضاء الديني. لهذا، كان من المفروض على المجلس العلمي الأعلى أن يكون ليس مدرسة ولكن مؤسسة للتنشئة الاجتماعية والروحية، على أساس أن المغاربة من المستحيل أن يعيشوا بدون ثقافة روحية. إنما وبكل أسى، يتخلف العلماء عن هذا الواجب.
- ربما قد لا يختلف كل متتبع للمشهد السياسي المغربي حول ملازمة النكبات للمغرب منذ مجيء الحكومة الحالية وارتباط اسم بنكيران بالكثير من الفواجع إن كانت لظواهر طبيعية أو أخطاء بشرية. السؤال هو ألا ترى كما يظن البعض بأن الوقت حان لنجدد العهد مع «اللطيف» حتى ينجينا من طوق توالي هذه المآسي؟
+ هذا صحيح، وبالتالي إذا كنا نجمع على أن المسؤول يفتقد القدرة التي تمكنه من حل مشاكل البلاد، فمن سيجد لها مخرجا من غير الله إذن..؟ وعليه، وجب ألا نلقي بكامل الثقل على عبد الإله بنكيران أو نحمله ما لا طاقة له به. وذلك لسبب بسيط، وهو أن الكثير من الطامات التي اجتاحت المغرب تجاوزت الرجل وحكومته برمتها. ومن ثمة فمعضلة أخلاق المواطنين لم يكلف بها بنكيران أو تدخل ضمن مجال اهتماماته. فهذا عنصر روحاني سلوكي يلزم تسويته على مستوى المساجد ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وأيضا العلماء، وليس رئيس الحكومة. والحقيقة، أننا أصبحنا نخجل من موضة هذه الأيام التي صار فيها توظيف الفضائح والزلات لحسابات سياسوية مما يقوي تغلغل الثقافة الشعبوية. وذلك، لا يخدم بطبيعة الحال صورة السياسة والسياسيين في بلادنا، أو ما يمكن أن نصطلح عليه بالسياسة العليا للدولة. فللغرابة، أنه لما يقع زلزال نحمل المسؤولية لبنكيران، ولما يعم فيضان نجلد بنكيران، ولما يشب حريق نلوم بنكيران، ولما يُبتلع غريق نهاجم بنكيران. حتى لما تتعرى «لوبيز» نقصف بنكيران، ولما نصدم بمشاهد فيلم غير محتشمة نتسابق لفتح قفص الاتهام في وجه بنكيران. في حين أن عقل المنطق يقر بأنه إذا كانت من مساءلة تخص رئيس الحكومة فالأجدر أن تستهدف برنامجه السياسي. ماذا حقق منه؟ وفي ماذا أخفق؟ أين نقاط قوته وأين تعشش مكامن الضعف؟ وإلى أي حد استطاع ترجمة مخططه إلى برنامج حكومي عقلاني معقول؟ فتلك هي الأسئلة المقبولة والمشروعة بالنظر لهامش مسؤولياته، لكن في المقابل لا نسجل سوى شذوذا سياسيا، وخروج انتحاري عن الطريق الصحيح بشأن ردود فعل المعارضة أو الانتقاد الموجه للحكومة بشكل عام.
- لكن ألا يمكن أن ندخل في هذا التحول الزلزالي، إن صح القول، عوامل خارجية غابت في السابق لكن كان لها التأثير القوي في عالم اليوم الذي لا يمكن بأي حال إقصاء المغرب منه؟
+ وهذا ما كنت بصدد الرغبة في التركيز عليه، حيث إذا ما التفتنا قليلا إلى المغرب على المستوى التاريخي سوف نتأكد من أنه كان ضمن الأمم المنطوية على نفسها، وهو الوضع الذي ساقه إلى نهج حل مشاكله بإحدى المقاربتين المادية أو الروحية، من السلطان إلى الصدر الأعظم إلى الزوايا إلى القضاة. غير أنه ومع بروز ملامح انفتاحه إبان سنوات القرن 19 بفعل اتفاقية مدريد والخزيرات، ومعاهدة الحماية الموقعة بمدينة فاس، فتحت صفحة جديدة في ماضيه بعنوان الثقافة الوضعية العقلانية. فحدث أن أثر ذلك التحديث سلبا على تقليص الفضاء الروحاني. الأمر الذي فجر بدوره صداما مخلخلا، ترتيبا على أن كل المعطيات والثوابت تعطي الدليل على عدم إمكانية وجود مغاربة بمعزل عن الشقين المادي والروحي. وهذا ما يتأكد من خلال 30 سنة التي هي عمر أعمال «بول باسكون» السوسيولوجية، وكذا دراسات «جاك بيرك»، فضلا عن أبحاث «روبير مونتين»، والتي تشير جميعها إلى الارتباط الوثيق للهوية المغربية بالمعطى الروحاني وما يشمله من لطيف وقراءة القرآن. وعليه، لما لامس ذلك التحديث الهندسة المعمارية والثقافة المجتمعية بالموازاة مع اكتساح المدرسة العصرية، وإطلالة البلد ككل على العلاقات الدولية، طلع خطاب يفيد وصول الوقت الذي لم تعد فيه حاجة للطيف. وإذا ما أصاب الشعب جفاف كانت قروض صندوق النقد الدولي مطية لاقتحام بورصة شيكاغو، وإذا ما وقع خصاص في الأدوية تكلف الاتحاد الأوربي بالموضوع بدعم وضع المغرب المتقدم داخل المنظومة الأوربية. فصرنا نعتمد بدرجة أكبر على البشر من اللجوء إلى الخالق. على عكس أيام زمان التي كان فيها الناس وبمجرد أن يشعروا بشح السماء، يسارعون إلى حمل كتاب الله والخروج من ديارهم قارئين للطيف بعد أن يضعوا الأطفال الصغار أمامهم. هذا مع التنبيه إلى أنهم كانوا يتصفون بالزهد والرضى بالعيش القليل الذي كان فلسفة الجنيدية، وهذا ما شكل أساس استقرار البلاد المرتبط أولا وأخيرا بالظاهر والباطن في الدين الإسلامي.
- إذا كانت الظروف بالفعل تغيرت وبدلت معها أحوال البلاد والعباد..أين يكمن بحسبك الملاذ حتى يرد الاعتبار لهذا اللطيف؟
+ يجب أولا الاقتناع بأن المغرب وكباقي شعوب العالم يظل في حاجة ماسة إلى سيكولوجية جماعية ذات صلة بالعامل الروحاني، لأن الإنسان وبصرف النظر عن جنسه أو أصل نسبه، وهذا معروف في الفلسفات، لا يحيى بالماديات وإنما بالروحانيات. ومن هذا المنطلق، كانت الزوايا ذلك المعين الذي يغذي هذا الجانب، بوصفها الأداة أو بالأحرى العمود الفقري لأمن وأمان البلد، اعتمادا، كما سبقت الإشارة، على الطبيعة الصوفية المتسمة بالزهد والاكتفاء بالقليل. والتي اختفت أيامنا هاته، فأضحى المغاربة لا يرضون بالموجود إلى حد يصل بهم إلى اتخاذ قرار التخلص من الحياة بالإقدام على الانتحار. لذلك أعود وأقول بضرورة وجوب استدراك وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لدورها الطبيعي والذي وجدت لأجله أصلا. مع الحد من تلك الغدة السرطانية العلمانية وما تحدثه من شرخ عقائدي داخل المجتمع ومس مستفز لمشاعر مواطنيه. فلا أحد يعترض على حق كل علماني في أن ينتمي لحزب ما أو تكون له قناعة سياسية معينة، لكن ليس من حقه أن يقترب من حرمة العقيدة التي تعد استمرارا فعليا للمسلسل الديني الذي تمت دسترته منذ سنة 1962.
دعاء «زهرة الكمال» ووساطة العارفين بالله لمن يعتقدون «ماعندنا وجه اللي نعطيو لمولانا»
تنقسم الزوايا بالمغرب إلى قسمين، الأول يأخذ أصحابه بالصلاة على النبي كتوجه ينقذهم من البلاء ونوائب الحياة. وهو التيار النبوي الذي اختاره سيدي احمد التيجاني. بعد أن سبق له، كما جاء على لسان أحد تلامذته، رؤية الرسول وقدم له دعاءا سمي بـ«زهرة الكمال». وهو الذكر الذي دأب سيدي احمد التيجاني على تلقينه لطلبته ومريديه بصفته شيخا، سواء بالمغرب أو السنغال أو غينيا أو مالي. بل كان نتيجة ما حظي به ذلك الدعاء من قدسية واحترام أن ألزم قارئه بالوضوء قبل النطق بحروفه. أما القسم الثاني من الزوايا، فهو الذي لا يذكر متبعوه الصلاة على الرسول، وإنما يذكرون اللطيف بالأسماء الحسنى درءا للمفاسد. وبهذا الخصوص، كان الكثير من الناس يلجؤون إلى العارفين بالله حتى يكونوا لهم وسطاء مع الخالق، معللين طلبهم بـ«توسط لينا أسيدي را احنا ما عندنا وجه اللي نعطيو لمولانا».
حين أسند المولى الحسن الأول تدبير البلاد للمتصوفة وأحزاب شيوخ الزوايا
لعل من الأمثلة الدامغة التي تؤكد ثقل الجانب التصوفي وأهميته على الشق السياسي، ما كان قد وقع للمولى الحسن الأول عندما زار إحدى الزوايا، ورفض شيخها «أكرام» استقباله. مخاطبا إياه: «ابتعد عن هذا البلد فإن لأهله مزاج صعب وحاد». لحظتها، نزل المولى الحسن الأول من على صهوة حصانه، وضرب الأرض بقدمه إلى أن تطاير ترابها، قبل أن يرد على الشيخ بالقول: «شخصي وأنت كلانا واحد. فأنا على عهدة بك، ويجب أن تكون أنت على عهدة مني». فدشن بذلك لصلح مع شيخ الزاوية لأنه كان مقتنعا فوق العادة بأنه ورغم قوته السياسية، ليس بقدرته تدبير شؤون الدولة دون المرور عن طريق الثقافة الصوفية، وأحزابها الذين هم شيوخ الزوايا.
الدكتور محمد خالد
اللطيف.. بُعدٌ غيبي لجلب الخير ودفع الشر
المقدس، حسب ما أورده المستشار الملكي عباس الجيراري في ندوة عقدت بمراكش سنة 2007 حول موضوع «الحضور الديني في العادات والتقاليد المغربية»، هو المعتقد الإيماني المتجذر في وجدان الإنسان والمجتمع، والذي يتشبث به لأنه يجد فيه السند في مواجهة التيارات المادية والتقلبات الإجتماعية وما تثيره من أزمات ومشكلات. في هذا السياق يطرح دعاء اللطيف كموروث ديني تم اللجوء إليه في فترات عصيبة اجتازها المغرب، وخاصة في الثلاثينات من القرن الماضي عند الإعلان عن «الظهير البربري». وفي هذه الورقة يقدم الدكتور محمد خالد بـ (سطات) قراءة في الموضوع..
يلتمس المومن دوما سوابغ العناية الربانية وفيوضات النفحات الإلهية، ويرتجي أن يمن عليه خالقه من أريحيته الدافقة سرمدا، ومواهب آلائه السنية. وهو العبد الفقير إلى رحمته، أن يجود عليه من خزائن فضله وشبره وكرمه، ما به يفرج عنه الكربات والمحن، كلما ألمت به النوائب وأحاطت به الشدائد في حياته الفانية، وتداعت عليه البلايا والآفات. وللمرء في قصص الصحابة والعلماء وأهل الولاية والعرفان مناهل يستقي منها العبرة والعظة والتأسي والاقتداء. فما وهنوا ولا كلوا بالضراعة إلى ربهم سبحانه وتعالى، ولم يفتر لسانهم بالدعوات، حتى حباهم الكريم جل وعلا بأسباب الإجابة ونوال العديد من الكرمات والبركات. لاجرم أن البلاء والابتلاء ينزل باجتراج الذنوب، ويكون العلاج بالتوبة والاستغفار. ومن قول ابن كثير عن العلماء تعريفا لمفهوم التوبة: (التوبة النصوح هو أن يقتلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل، ثم إن كان الحق لأدمي رده إليه بطريقة). والاستغفار في دلالته اللغوية: الستر والغفر والغفران بمعنى واحد . قال تعالى «من تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا» (الفرقان 71). وفي السنة النبوية المطهرة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله «لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة » رواه البخاري. يقول عز من قائل: «وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون» (الأنفال 33) عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» وفي حديث ابن عباس قال: قال رسول الله «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب». وإذا كانت التوبة النصوح تشي بالندم على خطايا مع العزم على قطع دابر العود، والاستغفار يطهر القلوب ويزيل أوضار الذنوب، والنبراس الذي يمحو سجف العصيان والضلال. فيرجع العبد إلى نور الرحمن. وبه يستنزل جم الرزق وغدق الغيث «يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم» (هود 52) عن شداد ابن أوس عن النبي قال: سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استعطت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي و أبوء بذنبي ، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها من النهار موقنا بها فمات قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة. رواه البخاري والنسائي.. فمن نافلة القول أن نلمح الى مأثور اللطيف كمطلب مشروع في الذاكرة الشعبية يتوسل به عند الاقتضاء رفعا للإذاية والمصائب وهو مندرج في مجال الأذكار المؤصلة شرعا. التي يعز عد وحصر فضائلها. قال عز من قائل: «الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز» (الشورى 19) اللطيف يناسب كونه سبحانه غير مدرك، وكيف يدرك الكاشف اللطيف؟ ومنه قوله تعالى: «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير». فاللطيف اسم من أسماء صفاته تعالى، ومعنى اللطيف الذي يعامل عباده باللطف، وألطافه سبحانه وتعالى لا تنقضي ولا تنفذ ولا تتناهى ظواهرها وبواطنها في الدنيا والآخرة. والذكر باسمه تعالى «اللطيف» يندرج ضمن التوسل إلى الله تعالى، والضراعة واللجوء والانحياز إليه، رغبة ورجاء، في كشف البلاء ورفع الضر و الكرب والشدة والضيق والحرج وكل سوء ومكروه، فالذكر باسمه تعالى «اللطيف» يطلب به جلب الخير ودفع الشر. والله تعالى يقول: «ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه» الأعراف 180 ولذلك تجد المغاربة، مثلا وهم الذين ترسخت فيهم معالم التربية السلوكية، ومظاهر الجمع بين العلم والعمل أو بين الفقه و التصوف، وظل الوئام سائدا بين الحقيقة والشريعة في ميدان التداولي المغربي، حيث كانت التزكية مطلوبة مرغوبة عند الخاص والعام... يلجأون إلى الله تعالى في توسلاتهم واشتغالاتهم ودعواتهم بالذكر باسمه تعالى «اللطيف» عندما تدلهم الخطوب وتشتد الملمات والكروب، ألست كنت تراهم في ما مضى يتآزرون ويجتمعون في المساجد والزوايا يذكرون «اللطيف» عندما اشتد ضغط الاحتلال الفرنسي على المغرب بقولهم: يا لطيف يا لطيف يا لطيف .... اللهم يالطيف نسألك اللطف فيما جرت به المقادير قبل نزولها وعند نزولها وبعد نزولها. ونعثر في خاتمة كتاب «دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في الصلاة على النبي المختار» للإمام أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي «على الدعاء» اللهم يا من لطفت بخلق السماوات والأرض ولطفت بالأجنة في بطون أمهاتها الطف بنا في قضائك وقدرك لطفا يليق بكرمك يا أرحم الرحمين». يقول الإمام البوصيري في بردته الشهيرة في باب التوسل والضراعة والاستغاثة، وهو أحد تلاميذ المدرسة الصوفية الشاذلية، نسبة إلى ابن الحسن الشاذلي أحد أئمة التصوف السني بالمغرب إبان القرن السابع الهجري/الثالث عشر ميلادي. والطف بعبدك في الدارين إن له ***** صبرا متى تدعه الأهوال ينهــزم وإذا نبشت في التراث الصوفي المغربي باعتباره مكونا أساسا في منظومة الثوابت الدينية لهذه المملكة الشريفة، زاخرا بقيم التزكية والأخلاق، وبقيم العمل والبعد عن الإشراق والتجريد، لألفيت كثيرا من الرسائل والتقاييد في الكلام عن خواص اسم الله تعالى «اللطيف». إن هذا التعامل الراقي مع هذا البعد الغيبي، لهو عبارة عن ركوب «الأسباب المعنوية» لاستجلاب الخيرات ودفع الشرور والأسواء.