كل رمضان تعود مسلسلات الدراما أقوى مما كانت، أكثر غزارة وانتشاراً، فتتربع على عرشه لتصبح أشبه برمزه وعنوانه. حضور قوي يرفع نجومها إلى سماوات أبعد من تلك التي احتلوها في السنة السابقة: إعلانات ترويجية عن المسلسلات تعمّ الشاشة، نجوم يمثلون، نجوم لا يمثلون، نجوم "يحاورون" نجوماً، أو نجوم يغنون التترات. ثم الألعاب القليلة التي يقدمها نجوم، أو إعلانات تجارية، تكون أكثر إقناعا لو ظهر فيها نجوم؛ تسبقهم، أو ترافقهم، مقالات في الصحافة تتابع هذه المسلسلات، تتابع أحداثها وأخبار نجومها، فـ"أزمة" الدراما السورية و"أزمة" النصوص، أو الرقابة أو الحذف أو عدم انضباط مواعيد عرضها، أو تفضيل فلان من السياسيين هذا المسلسل على ذاك...
بعد نهاية رمضان، يأتي شهر شوال، وذو القعدة، وخلالهما تضج الشاشة مرة أخرى بالمسلسلات التي شوهدت أثناء رمضان؛ ولكن هذه المرة، تنظم حفلات التكريم للنجوم الكبار الذي سطعوا فيها أكثر من غيرهم، وتقدم الدروع والأوسمة، ومقابلات مع الذين لم يسطع نجمهم؛ فضلاً عن ندوات يشرح فيها النجوم معاني الشخصية الدرامية المختلفة، يعطون النصائح حول سُبل تجنّب مصيرها الأسود، أو انحرافاتها الأخلاقية... بل يتجاوز أحياناً الأمر حدود النصح والإرشاد، فتتلبس عليهم الحالة، ويتحولون إلى فقهاء يفتون...
من يتذكر نور الشريف، في رمضان 2002، وقد بلغت نجوميته ذروتها عندما تولى بطولة "مسلسله الناجح"، "الحاج متولي"، ويلعب فيه دور رجل يتزوج المرأة تلو الأخرى، من دون أن يخسر "كاريزماه" الأخلاقية.... يومها، كان النجم يتكلم أثناء أحد احتفالات تكريمه على بطولته في مسلسله هذا، فيطلق فتواه الشهيرة بأن "تعدد الزوجات من سِنَن الطبيعة"، والسبب "أن النساء أكثر عدداً من الرجال".
البطل الآخر المتخفي وراء عرش نجوم الدراما، وبمائة وجه ووجه، وأحياناً بوجه أحد النجوم الذي لم يجد لنفسه مسلسلاً... هو الإعلان التجاري. إنه يحتل نصف وقت الحلقة الدرامية. اسمه زيت نباتي أو أفخاذ دجاج أو عصير مصنَّع أو سمنة أو مكعّبات مطيِّبة... أو أي شيء يمتّ إلى الأكل بصلة، وما يتبع الأكل من تنظيف بالمواد الفعالة... وإذا أضفتَ إليها برامج الطبخ التي تعلم أشهى الأطباق والمأكولات، "بمناسبة الشهر الكريم"، يكون دليلك واضحا: المسلسل الذي يأكل العدد الأكبر من الإعلان هو الأنجح، هو الذي سيدفعك بالتالي إلى الخروج من البيت والتبضّع بما روجت له الإعلانات، ثم العودة إلى البيت لطبخ أصنافه التي لا تنتهي، من دون إضاعة أي واحدة من الحلقات. بحيث يتحول رمضان إلى شهر الطبخ والجلوس أمام نجوم الدراما.
الإعلانات التجارية أكبر علماء الاجتماع؛ هي التي تدلّنا على نجاح سياستها في استهداف المواطنين المشاهدين. هي التي تشير لنا إلى أن رمضان يقتصر، بالنسبة للغالبية العظمى من أهل الضاد، على الأكل وحضور الدراما والإعلانات التي سوف تشجعهم على متابعة الدراما في اليوم التالي وشراء ما عرضته الشاشات من لذيذ الطعام... وهكذا.
ودليل هذا الاستنتاج هو استمرار، بل تزايد اهتمام شركات الإعلان بالشهر الكريم، بدفع المبالغ الطائلة للأقنية التي تعرض المسلسلات، وما يدفعه بالتالي المنتج "الذكي" للنجم الكبير. فيكون الموضوع الإعلامي الجذاب، أن فلانا من النجوم كان الأعلى أجراً، ملايين... تأتي من بعده فلانة من نجوم الإغراء ولها بطولة مطلقة في مسلسل، تكون هي الثانية من بعده في ترتيب الأجور، والثالثة... حتى نصل إلى أدنى الأجور.
منذ عشر سنوات تقريباً، كان هناك رسم كاريكاتوري مصري لرجلين يدخنان النرجيلة، فوق رأسهما روزنامة شهر رمضان، وإلى جانبهما مشهد من مسلسل تلفزيوني. الرجل الأول يسأل رفيقه "من وُجد قبل الآخر؟ رمضان أم التلفزيون؟".
كان هذا منذ عشر سنوات، عندما كنا نقول بأن هذا قعر لا يمكن النزول إلى أدنى منه، هذه الكثرة التلفزيونية تحتاج إلى ما يضبطها. فكانت النتيجة ازدياد سنوي مضطرد للمسلسلات الدرامية الرمضانية ومعها الإعلانات التجارية... بحيث يمكننا التساؤل الآن عما يمكن أن يكون عليه الأمر بعد عشر سنوات، أي عام 2025: بأي حال، بأية حلّة يعود رمضان سنتها على أهل الضاد؟ هل يعود فيجمعهم كما في الماضي السحيق، بعدما فرقهم التلفزيون؟ أم يكونوا قد بلغوا قاعاً جديداً من تخمة النجوم والطعام والضجر؟
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)