سنجانب الحقيقة إذا زعمنا أن مداد اليوم يمكن أن يملأ بياضات هذا العنوان.لكن إذا استحضرنا تراكم ما كتبناه، وانعطافة استهدافنا من طرف فراخ الوهابية، بما يندرج الآن على الأقل، في أدنى موجبات التعزير، في انتظار ما هو أعظم، فإن هذا التراكم وبهذه الانعطافة في التغذية الراجعة، يسمح لنا بهذا التأطير لمعادلة الإسلام المغربي، وأنا غير مستبشر إطلاقا برسالة الفتنة، رسالة الفوضى الخلاقة للمخزن الديني، وهو يسوق وبقدر كبير من الزهو، الوهابية التقليدية باسم التدين المغربي، في الداخل والخارج.
لذلك فرسالة تهديد الوهابي/ السلفي طارق الحمودي لمن يعتبره سيسي المغرب، بالمس بسلامته البدنية، وبأسلوبها السوقي التكفيري، تندرج ضمن تداعيات ندوة المجلس العلمي الأعلى حول السلفية، التي أضفت المشروعية على الوهابية التقليدية. كما تندرج ضمن آليات الدفاع عن المواقع الرسمية للوهابية، وقد تمثل هذا الشاب الوهابي نقدنا لهذه الندوة، كمعارضة لخيار الدولة. كما تندرج أيضا، ضمن مفردات العمل الوهابي في المغرب، على نحو صياغة تقي الدين الهلالي لها. إضافة إلى اندراجها ضمن الطموح الشخصي لتكريس مشيخة لحية هذا الشاب، على اليافعين في التعليم العتيق، وطموح حجزه ورقة المرور من سلك الماستر إلى سلك الدكتوراه بكلية أصول الدين، باعتبار أن هذه الكلية، منخرطة في تخريج الأطر العليا للحركة الأصولية، على أرضية استحقاق معاداة كل القوى الحية في البلاد، بما فيها الزوايا والسادات، وقد زادها تعميدا، عرض الشيخ زحل -وهو ينقل موقع العرش من السلفية المغربية إلى السلفية الوهابية- بإقامة تحالف القصر والأصولية، لمواجهة القوى الديمقراطية.
معاني تناثر جانب منها، في مقال ضروب الوعي الإيدولوجي في تلقي ندوة السلفية، ونحن نتولى تشجير السلفية الوهابية، وبقدر من التحديد في تطوان، على أرضية تأطير تقي الدين الهلالي، والتي سنستكمل اليوم الإحاطة بباقي أوجه هذه الأرضية، بعد أن وقفنا على دوره في الانقلاب على الملكية في العراق.
إن دعوة الهلالي إلى الله في تطوان، لمدة ست سنوات، منذ مارس 1942، لم تكن إلا دعوة وهابية، أغفلت فيها مهمة تحرير البلاد بقوله: "اتفقت مع سماحة المفتي السيد أمين الحسيني، على التوجه من برلين إلى شمال المغرب، وحملني رسالة شفوية، إلى الأستاذ المجاهد رئيس حزب الإصلاح الوطني، الزعيم عبد الخالق الطريس، رحمة الله عليه، تتعلق بإصلاح حال المسلمين في شمال المغرب". وفيما يلي، بعض عناوين هذه الدعوة على لسانه، والتي يراد لها أن تمثل خيارا رسميا للدولة في المغرب، في سياق الانقلاب على مرجعية إمارة المؤمنين:
"ولما بدأت دروسي في الجامع الكبير، لم يكن أحد يضع اليمنى على اليسرى في الصلاة. ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة، أعظم شعار للمتبعين للسنة. فبدأ العوام يعملون بهذه السنة وغيرها. وكان الناس يتعجبون من العاملين بها، ولكن باستمرار الدروس بضع سنين، كثر المتبعون للسنة، في هذا المسجد. حتى صار الناس إذا رأوا رجلا سادلا يديه في الصلاة، لا يرفع عند الركوع، ولا عند الرفع منه، ولا يجهر بالتأمين، يتعجبون منه."
"بعد ما استقررت في تطوان أنشأت هناك مجلة شهرية سميتها "لسان الدين". ونشرت فيها مقالات، بينت فيها بطلان العقيدة الأشعرية التي يدين بها أهل المغرب منذ عهد محمد بن تومرت ودولة الموحدين التي هي ثمرة دعوته إلى يومنا هذا".
"وضعت حاشية على كتاب الشبهات لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وطبعتها ونشرتها. لكنني استعملت في ذكر اسمه ما يسمى في مصطلح الحديث بتدليس الشيوخ، وهو جائز بل مستحسن إذا أريد به الإصلاح(..) وقد سميت الشيخ محمد عبد الوهاب بن سليمان الدرعي، فنسبته إلى جده، ثم نسبته إلى الدرعية، وذلك حق، فهي بلدته، ولكن لم يشتهر بذلك. وزاد الأمر غموضا أن في المغرب كورة تسمى درعة، والنسبة إليها درعي. فنجحت فيما قصدته من ترويج الكتاب. فقد طبعت ألف نسخة فبيعت في وقت قصير. ولم يتفطن لذالك حتى الشيخ أحمد بن صديق مع سعة اطلاعه وعلو همته في البحث وكثرة ما في خزائنه من الكتب، بقي في حيرة(..). وإنما فعلت ذلك، لأن المتأخرين من رجال الدولة العثمانية حرضوا شرار العلماء في جميع البلاد الإسلامية على تشويه سمعة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذبوا عليه، وأوهموا أتباعهم أنه جاء بدين جديد، وأنه ينتقص جانب النبي الكريم ويكفر المسلمين، إلى غير ذلك من الأكاذيب.."
"ثم طبعت رسالة زيارة القبور مع حواش قليلة، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية. وسميته أحمد بن عبد الحليم الحراني. ولم أذكر لفظ ابن تيمية للعلة السابقة الذكر، فراج الكتاب وانتشر ونفع الله به المسلمين. ولما بعثت من كل من الكتابين، نسخة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه (مفتي السعودية) فرح بنشرهما، واستحسن الطريقة التي سلكها لبعد نظره ووفور عقله وحكمته".
"درست في الجامع الكبير كتاب فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وختمته في ذلك المسجد مرتين، فانتشر هذا الكتاب انتشارا عظيما، حتى أني طلبت من جلالة الملك فيصل(..) أن يمدني بنسخ من فتح المجيد. فأمر بإرسال ثلاثمائة وثلاث وأربعين نسخة بالبريد الجوي".
هذه المهام وغيرها، إذا أضفنا إليها علاقته بمصدر القرار السياسي والديني في العربية السعودية، كالعلاقة بالملك عبد العزيز وأبنائه، وبالمفتين محمد بن إبراهيم، وعبد العزيز بن باز، وحرصه على التقرب هنا في الشمال من أصحاب القرار كالخليفة السلطاني، وتوفير الحماية الاستعمارية لدعوته، بتصوير الأمر كالخلاف في المسيحية بين الكاثوليك والبروتستانت، حيث لا يجوز أن تتدخل طائفة في أمر طائفة أخرى، أدركنا مقومات التمكين لهذا المخطط الأصولي. طبعا لابد أن نضيف بهذا الشأن أنه كان شديدا في التهجم على علماء تطوان، وفي الطعن في الإمام مالك ورجاله والقطب ابن مشيش، وفي جميع مفردات الإسلام المغربي، كالمولد النبوي وقراءة القرآن جماعة، وزيارة الأضرحة. ولا يتورع في استعمال جميع الوسائل لهذه الغاية، بما في ذلك توظيف استعداده الفطري للعمالة، إلى جانب العنف والتدليس والتقية والمخادعة والنفاق والإنكار، حسب ما تدعو إليه الحاجة. وفي كل هذا يستعمل وسائط فضاءات المساجد للوعظ والتدريس، والجرائد والمجلات، والمنشورات، وهيأة الأمر بالمعروف.
ما يمكن أن تستخلصه من كل هذا الجرد، أن المخطط الأصولي بارتباطاته الخارجية الموصولة، يعي حاجته في الانتشار والتمدد، إلى مناخ آمن. لذلك فهو من جهة يتقرب إلى السلطة، بل ويسعى إلى زرع منتسبيه في مواقعها. فقد وظف الحماية الاستعمارية في تصريف هذا المخطط، كما وظف الحماية المحزنية في ذلك، وهو يعلن الولاء السياسي للدولة، على حساب الولاء المذهبي. ومن جهة أخرى يستعمل جميع صيغ العنف مع المخالفين. وفي سياق التدليس يستعمل عناوين ذاكرتنا العالمة في المذهب والقراءات، في فضاءات تسويق هذا المخطط.
في هذه الصيرورة يجب قراءة ندوة السلفية، وتداعياتها في كلية أصول الدين والمجلس العلمي بالمضيق، وانتصاب الوهابي طارق الحمودي للمساس بسلامتنا البدنية. وفي هذه الصيرورة يجب قراءة منجز هيكلة الحقل الديني. فهل أصلحت الدولة ما أفسدته الوهابية باسم السلفية التقليدية، حتى نتطلع إلى ما هو أبعد في رسالة المغرب الحضارية؟. ربما تنتظر بلوغ صدمة التصدير الرسمي للسلفية الجهادية، لتتخلص حواسها من هذا التنويم الأصولي العميق.
لا نخفي القول، إن المغرب في حاجة -أمام انزلاق مؤسساته الدينية بفعل الاختراق الأصولي، إلى ممارسة نفس أسلوب تقي الدين الهلالي في التدليس- إلى قطيعة إبستيمولوجية، مع تدبير المخزن الديني والسياسي، لإنجاز مهام الدولة الوطنية الديمقراطية، وبناء مرجعية إمارة أمير المؤمنين على تقوى من الله ورضوان. ما عدا ذلك، سنبقى كمؤسسات بوعي أو بدونه، نُعمل المزيد من معاول الهدم في معمارنا المذهبي والمؤسساتي، وخدمات الأصولية جاهزة لتبرير الاستبداد والاستغلال والتخلف، وقطع الأعناق والأرزاق، وحتى حجز مقاعد جهنم من الآن لكل المخالفين، وباسم الدين.
المغرب، إلى أين؟ سؤال نرفعه إلى كل من تسكنه هامة هذا الوطن، في حدوده الحقة، وفي رسالته الحضارية. أما جذبنا الذي لا يسقط التكليف، فما زال يتطلع، إلى طليعتنا الثورية في الإصلاح، صاحب الأمر، ليتدارك هذه الأمة -وروح القدس معه- قبل فوات الأوان. هل بلغت؟ اللهم فاشهد !