في نهاية آذار الماضي قرّرت سارة، وهي تلميذة محجبة، فرنسية من أصل مغاربي، أن ترتدي تنورة طويلة. مديرة المدرسة، عندما رأت تنورتها، طردتها. بعد شهر تقريباً، كانت سعاد، وهي طالبة جامعية جزائرية، غير محجّبة، تدخل الجامعة وهي ترتدي تنورة قصيرة؛ فطردها رجل الأمن الموكل حراسة المبنى الجامعي في الجزائر.
طرد سارة أشعل معركة على "تويتر"، وهاشتاغ "أرتدي التنورة التي أريدها"، تدعمه صور لمشاهير من النجوم بالتنورة الطويلة، وكل ما يتفق من خيال أهل الشبكة من طرق بصرية؛ وسجال حامٍ في مواقع التواصل الاجتماعي، مع التنورة الطويلة، أو ضدها، مع كونها تتعارض مع العلمنة أو لا تتعارض، بصفتها "إشارة" دينية، أو "محايدة"... وطرد سعاد، أيضاً، لم يكن أقل إثارة: فقد اندلعت المعركة الإجتماعية-الشبكية، إثر طردها، أيضا بهاشتاغ "حملة كنْ رجلا ولا تترك نساءك يخرجن بلباس فاضح"، تلتها حملة مضادة، بهاشتاغ "حملة السيقان العارية"، يقودها علمانيون جزائريون ومغاربيون، يحتجون على فرض اللباس الإسلامي الواحد على الجزائريات؛ وفي السادس من يونيو الجاري، "اليوم العالمي للتنورة القصيرة"، كانت تظاهرة لتونسيات، في تونس العاصمة، بالتننانير القصيرة، دعماَ لسعاد... وللمهتم بتفاصيل مكررة عن الحملة والحملة المضادة، مع سعاد أو مع سارة، أو ضدهما، ليس عليه سوى الغوص في عوالم الشبكة.
قبل الموقف من هذا السجال، مهلاً، هناك ما يستوقفنا: أولا، سعاد وسارة مسلمتان: الأولى فرنسية تعيش في فرنسا، وطُردت بسبب تنورتها الطويلة، والثانية جزائرية تعيش في الجزائر، طُردت بسبب تنورتها القصيرة. وعلى أجسادهن، لا خارجهما، ولا بالتوزاي معها، تُخاض معركة أيديولوجية هويتية فائقة الدلالة: بين مستعمَرة فرنسية سابقة، الجزائر، تخوض عبر التنورة الطويلة إحدى معارك تخلصها من الإرث الثقافي الغربي الحداثي، العلماني، وبين معقل استعماري سابق، فرنسا، ينظر إلى ثقافة المستعمَر، الذي بات يسكن دياره، تهديداً لهذا الإرث العلماني الحداثي.
هي معركة ثقافية، يخوضها شباب شبكات التواصل الاجتماعي، ولا علاقة لها بالقانون: فلا الفرنسيين منعوا التنورة الطويلة، وإن منعوا الإشارات الدينية في المؤسسات العامة، والتي تطال حجاب المسلمات، ولا الجزائريين أصدروا قانوناً يمنع ارتداء التنورة القصيرة. المديرة الفرنسية ورجل الأمن الجزائري تصرفا بوحي من المناخ السائد في بلادهما؛ والمناخ أقوى من القانون.
ولكن، ما الذي وضع الحجاب في المرتبة الثانية، مع ان البلدين لم يلجآ إلى القانون لفرضه كما في الجزائر، أو منعه كلياً كما في فرنسا؟ أو بصيغة أخرى: لماذا لا يستمر مسلمو فرنسا في معركة الحجاب، ضد قانون منعه في المؤسسات العامة، مثلا؟ بحيث يصبح حرا طليقا؟ ولماذا، في الجزائر، لا يخوض الإسلاميون معركة قانونية لفرض إلزامية الحجاب على الجزائريات، فيحققون بذلك وجهاً من أوجه إسلاميتهم؟
هل فقد الحجاب وهجه، لتحتل التنورة مكانه؟ فسارة، الفرنسية، محجبة أصلاً، وأكملت حشمتها بالتنورة الطويلة، "المتواضعة". لم يعد الحجاب بالنسبة لها معركة، ولو قانونية، بعدما صارت تخلعه عند دخولها المدرسة، بناء على القانون، وترتديه خارجها، من دون أن تخرقه. نظيراتها الجزائريات، المحجبات مثلها، لا يحرمن أنفسهن من اللباس "المغناج"، بالمعايير الجزائرية. وفي الجزائر ليس من قانون يلزم بالحجاب، ولا ما يمنع الدلال الأنثوي من ان ينطلق، حتى ولو خلف حجاب.
ثمة حجتان في طرفّي المعركة حول التنورة: الأولى مع الطويلة، تقول بأن منع القصيرة، غرضه محاربة "التحرش الجنسي"؛ فيما الجميع يعلم بأن التحرش الجنسي والجرائم الجنسية لا يؤججها هندام. المنقَّبة والمحجّبة والمحتشمة، يتعرضن للتحرش على قدر ما تتعرض له السافرة الفاضحة غير المحتشمة. الحجة الأخرى، الواقفة مع التنورة القصيرة تقول بأن منعها يرمي إلى "توحيد" زيّ الجزائريات، بحيث يكون كله خلف قماش. ولكن القائمين على هذه الحجة لا ينتبهون إلى كون الزيّ الأوروبي هو أيضا موحَّد، موحًّد بموضة تفرض نفسها بنعومة ("قوة ناعمة")، ولكن مضمونها لا يختلف عن الزي الاسلامي المتشدّد، وميله المعكوس، الجارف والجذاب، إلى توحيد عُري النساء؛ لتتحول بذلك اللعبة بين سارة وسعاد إلى لعبة حضارية تخاض على جسد النساء؛ أطرافها متفقون على إرغام المرأة، بقوة الموضة، او بقوة العنف، على ارتداء ما لم تختره أو تتخيله، أو تتصوره، مناسباً لمناخ بلادها، لذاكرتها الفنية، لذوقها، لراحتها، لسنّها، لطبائعها، لطولها، لعرضها، لطبيعة نشاطها، لقدراتها المادية...
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)