على هامش النقاش المفتوح حول موضوع تراث الخيل والبارود بالموازاة مع النسخة السادسة عشرة لجائزة الحسن الثاني لفن التبوريدة بدار السلام بالرباط، تستمر "أنفاس بريس" في تقديم الطبق التراثي حول طقوس وعادات ركوب الخيل، من خلال مجموعة من الأسئلة سنجيب عنها لنفتح شهية المتلقي في الخوض بعشق في موروثنا الثقافي الشعبي في أفق ثتمينه كرأسمال لا مادي تزخر به كل مناطقنا المغربية.
هل نمتلك ثقافة تراثية بخصوص فن التبوريدة؟ هل نعرف حاجيات ولوازم الخيل والبارود؟ ما هي أهم مكونات ألبسة الفارس و"أسنحة" الخيول التي تتزين بها؟ وما هي دلالات ورموز بعض المستلزمات المرافقة لكسوة الفرسان والخيول؟ هل للصناعة التقليدية حضور في فن الفروسية التقليدية؟
تداول الإنسان أسلحة البارود منذ القدم كرمز للسلطة والنفوذ، واستعملت كرادع ضد الغزو والهجمات المباغتة للعدو، وتوارثها الأجيال كضامن للأمن والأمان والدفاع عن حوزة القبائل، وكانت وسيلة من وسائل القوة والجاه لردع وإحباط كل التربصات التي تحاك ضد سيادة الأرض والإنسان. وارتبط سلاح البارود بالمقاومة ضد المستعمر رغم صعوبة الحصول عليه وتمريره للمقاومين الذين استشهدوا في سبيل استقلال الوطن، وصنع رجالات المقاومة أروع الملاحم في الجبال والسهول والقرى والمدن بلغة البارود.
وتعود صناعة الأسلحة النارية في المغرب، حسب العديد من المصادر التاريخية، إلى القرن السابع عشر، حيث استوحت صناعتها من البنادق الأجنبية وارتكزت على المواد الأولية المستوردة من الخارج أو من غنائم حراسة شواطئ البحر وسواحله. وتؤكد المصادر نفسها أنه تم إنشاء مصاهر للنحاس في كل من تارودانت وفاس ومراكش، مما ساعد على تشجيع وتطوير هذا المنتوج الحربي والجهادي، حيث كانت سلسلة إنتاج البنادق تتوزع بين مهن "الجعايبية" المتخصصين في صناعة ماسورات (جعب لمكاحل) من صفائح الصلب المدعومة بخواتم فولاذية لتقوية صلابتها والتي يتراوح طولها بين (متر و1,50 متر) وماسورات المسدسات التي لا يتعدى طولها 80 سم، ثم المتخصصين في صناعة صنفين من الأزندة بالتقنية الدمشقية (بوشفر وبوحبة) لتترك عملية التطعيم بالذهب والفضة والنحاس "لحرفيي التزيين"، وهم في الغالب يهود الأصل متخصصين في تزيين أسرة البنادق ومقابضها عبر تقنيات النقش والترصيع بمختلف المعادن الثمينة والأخشاب والعاج.
من المؤكد أن موروثنا الثقافي الشعبي المغربي يختزل العديد من الصور الرائعة التي تناولت لغة البارود في مواضيعها، شعرا ونظما وغناء ورقصا، واستحضرت شهامة الشجعان وخيولهم وبنادقهم.. وأقوى دليل هو تلك الرقصات الشعبية لعبيدات الرمى التي تستعمل فيها بعض المجموعات الغنائية البنادق بحركات غاية في التنسيق والتناغم لإبهار المتلقي وإخضاعه لسلطة البارود، لإنعاش الذاكرة الشعبية والسفر بها بين الماضي والحاضر. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر مجموعة ولاد أحمر النواصر الذين تفننوا وبرعوا في الرقص بالبنادق رفقة العناصر الموسيقية المحترفة عزفا على الآلة النفخية (الغيطة) وإيقاعات الطبل البلْدي المصنوع من جلد الماعز بالإضافة لآلة الطعريجة ولمقص، حيث كلما اشتد الميزان يحيل المتلقي على الإيقاع الحربي وسنابك الخيل والبارود وشهامة الفرسان الشجعان الذين لا يهابون الموت في سبيل الدفاع عن حوزة الأرض والإنسان.
هكذا ستصبح بندقية البارود أو ما يطلق عليها باسم (المكحلة) من مستلزمات الفروسية التقليدية (فن التبوريدة) الأساسية والضرورية، والتي تطورت صناعة وتزيينا وصلابة حيث يصل ثمنها إلى حدود 4 ملايين سنتيم، حسب جودة ونوعية المواد الفولاذية أو الخشبية للأجزاء المصنوع منها حسب الحرفي والصانع المتخصص في صناعة مكاحل التبوريدة المغربية.. ورغم أن طريقة الصنع تبقى هي نفسها على مستوى التقنيات، فإن البنادق التقليدية بالمغرب تتميز بخصوصيات جهوية. فمثلا في منطقة سوس ماسة درعة وجبال الأطلس الكبير الجنوبي تتميز المكحلة بالأخمص الدقيق والخفيف المنمق بزخارف من العاج أو العظام، وقد يصفح ظهر الأخمص في بعضها بصفائح فضية أو نحاسية، ويمكن أن يزين بقطع زجاجية مختلفة الألوان والأشكال وبأصداف وأحجار جميلة الشكل والهندسة، ويلتحم أنبوب البندقية بالسرير الخشبي عبر حلقات فضية نحاسية وفولاذية تتضاعف حسب قدرة الفارس المادية.
وبمنطقة تارودانت تصنع بنادق من نوع (أفضالي)، حيث تتميز بأخمص مدعم بصفحة معدنية مرصعة بقطع عارضات من عظام الجمال أو قطع من العاج.. وفي نفس المجال الجغرافي يتم صناعة المكحلة التي يطلق عليها اسم (تاوزيلت)، والتي تتميز كذلك بأخمص مغطى بصفائح فضية مزركشة بزخارف ونقوش ووفرة المسامير المزينة.. وبمجال وادي درعة وكذا بالأطلس الصغير، برع الحرفي المغربي بإتقان في صناعة بندقية "التيت" التي اشتهرت بأخمصها الدقيق والمقوس، وهي تتضمن أيضاً زخارف من عظام الجمل أو العاج أو نقوش على إطارات معدنية ثمينة.. أما في المنطقة الجغرافية لشمال الأطلسيين فمنتوج البنادق (التطواينة مثلا) مختلفة من حيث الشكل بأخمصها العريض وتقوسات متماثلة ما يمنحها شكلاً هندسيا مثلثا، مع الإشارة إلى أن سمك الخشب المستعمل من طرف حرفيي المنطقة الشمالية ومنطقة الريف على الخصوص يضمن لهذا النوع صلابته ويمكن من تزيينه في العمق فنيا وتشكيليا بحكم احتكاك الصانع المغربي باليهود المرحلين من الأندلس والذين فضلوا الألوان الداكنة مستعملين بالخصوص خشب الجوز وعملوا على تزيين الأخمص بشكل دقيق وبفتائل فضية.
وتؤرخ ذاكرة حكايات الموروث الثقافي الشعبي في المجتمع المغربي بخصوص الصراع بين القبائل (عهد السيبة) استعمال الفرسان مكحلة "بوحبة"، والتي تطلق بارودة وحيدة أثناء المواجهة للتصدي للعدو وهجماته ويشترط قائد الكتيبة، مقدم سربة الشجعان، من مرافقيه الفرسان الانضباط لتعليماته ونصائحه بعد أن يكون اختياره قد وقع على الأجود من شباب القبيلة الذين يجيدون إصابة الهدف.. فضلا عن قوتهم وقدرتهم على استعمال السيوف والخناجر بعد إطلاق البارود.
وقد حملت أغاني العيطة الكثير من الأحداث التي تسجل ملاحم بطولية للفرسان ودفاعهم عن شطط سلطة القياد وحركاتهم المخزنية خدمة لأجندة المستعمر.. ورسمت العيطة الحصباوية أحسن اللوحات البطولية بجانب العيطة الحوزية، لذلك يعشق فرسان التبوريدة كل الأغاني التي تمجد الخيل والبارود في ثقافتنا الشعبية.
ونعزز هذه الورقة بجزء من عيطة النيرية والتي تحمل عدة صور دلالية:
"غوثت الشلحة في الجبال
دارتها نوضة وزغاريت
بين الجبال وبين الطرقان
وفي ساعة ولات غمام
ورا الصابرة ولات احرير
وافين ايامك آبن جرير
ياك الغبرا والكور ايطير
ياك الغبرا واكصاص الخيل
وفين ايامك ألاربعا
كان موسم ولاحركة
لا خزانة ولاعود بقا
وفين ايامك آبو عثمان
اكدات النار بلا دخان
ورا الطرابش كي بلعمان
ورا الموتى كيف الذبان...".