خيل وبارود المغرب.. من المقاومة إلى ترسيخ قيم الشهامة والمواطنة

خيل وبارود المغرب.. من المقاومة إلى ترسيخ قيم الشهامة والمواطنة

على هامش النقاش المفتوح حول موضوع تراث الخيل والبارود بالموازاة مع النسخة السادسة عشرة لجائزة الحسن الثاني لفن التبوريدة بدار السلام بالرباط، تقدم "أنفاس بريس" لقرائها طبقا تراثيا حول طقوس وعادات ركوب الخيل، من خلال مجموعة من الأسئلة سنجيب عنها لنفتح شهية المتلقي في الخوض بعشق في موروثنا الثقافي الشعبي في أفق تثمينه كرأسمال لا مادي تزخر به كل مناطقنا المغربية.

هل نمتلك ثقافة تراثية بخصوص فن التبوريدة؟ هل نعرف حاجيات و لوازم الخيل والبارود؟ ما هي أهم مكونات ألبسة الفارس و"أسنحة" الخيول التي تتزين بها؟ وما هي دلالات ورموز بعض المستلزمات المرافقة لكسوة الفرسان والخيول؟ هل للصناعة التقليدية حضور في فن الفروسية التقليدية؟

الفروسية عمق الوجود الإنساني بمغربنا العميق ولغة تواصله مع الأجيال، بل هي لسان موروثنا الثقافي الشعبي المغربي وقاسمه المشترك وحصنه المنيع وعنوان للمجد وبوابة للنبش في التاريخ وجغرافيا الوطن.

بالخيل والفرسان عم الأمن والأمان وتوحد المجتمع تحت راية الوطن والعرش على صهوات الخيول والجياد، حيث انصهرت قوة الإنسان مع قوة الفرس لتنتج الاستقرار الاجتماعي والثروة الاقتصادية، وجمع شمل المجتمع الثقافي الشعبي رغم تعدد روافد تراثه وخصوصياته عبر كل مجالاتنا الجغرافية، لأن الخيل والبارود منبع التواصل الأصيل وأرقى سبله.

أكيد أن الأنبياء والرسل أحبوا الجياد والأفراس والخيول لجمالها وإخلاصها وقوتها وربط الإنسان بواسطتها علاقاته ووطدها عبر التاريخ والجغرافيا، وحملت الرسائل والأخبار بكل تفاصيلها الجميلة، نقلت الأفراح والأتراح، بل كانت سببا في السلطة والجاه والنفوذ وقهرت الخصوم والأعداء وانتصرت لقيم السلام والتسامح، تغنت بها النساء ضمن أغاني ومواويل الماية الشعبية بمقاطع تحمل أجمل الدلالات والرموز (شكون الدايز في لمراح مول البركي والسناح) ومجدت بها مفهوم الشجاعة والإقدام والباسلة، ورسخت بها تقاليدنا وطقوسنا التراثية المتجذرة في التاريخ (مول العود الطرفاني في يدو لعشارية).

إن توحد ذات الفارس مع الفرس، شكلا عبر الزمن أروع الصور الشعرية والتشكيلية والثقافية والفنية والاجتماعية، ولهذه الاعتبارات أحبها النبلاء وعلية القوم منذ القدم، حيث خصها الدين الإسلامي بأعظم المراتب والمراكز، من خلال الأحاديث النبوية الشريفة (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة... وأهلها معانون عليها والمنفق عليها كالباسط يده بالصدقة).. بل إن الذات الإلهية أقسمت بها في القرآن الكريم (والمغيرات صبحا).. لذلك ورث المغاربة هذه الثروة العظيمة واهتموا بها اهتماما بليغا كموروث ثقافي شعبي تراثي، فأقاموا لها أكبر التظاهرات وطنيا وجهويا وإقليميا ومحليا، وانتصرت لها العديد من مكونات الجسم الجمعوي الجاد بحثا وتنقيبا ودراسة وتشخيصا عبر التاريخ الزاخر بالمعطيات والأحداث والوقائع، على اعتبار أن الفروسية التقليدية مكون أساسي من مكونات الثقافة المغربية وفنونها التراثية الجميلة ذات الدلالات العميقة والأبعاد الاجتماعية والسياسية والثقافية، حيث يشهد التراكم الذي أبدع فيه الكثير من الفنانين الذين وظفوه في كل إبداعاتهم وإنتاجاتهم الثقافية والفنية سواء في التشكيل أو الشعر والرواية والقصة والمسرح مع تسجيلنا للنقص الفظيع على مستوى استثمارها على مستوى السينما نظرا "للزين اللي فيه" (كموروث ثقافي شعبي).

2

الزميل فردوس يوثق لحظات استعداد الفرسان بمهرجان البير الجديد في نسختها الأولى سنة 2014

أكيد أن للبارود وقع كبير في نفوس المواطنين، حيث يحيل الذاكرة الوطنية على الماضي بكل تفاصيله الغنية بالمقاومة والتضحية والوفاء، لذلك فكلما كانت طلقات البارود مميزة خلال تظاهرات ومهرجانات الفروسية التقليدية وبالمواسم الوطنية إلا ورافقتها زغاريد النساء، زغاريد أمهاتنا الشاهدات على عبق التاريخ وأمجاده البطولية، دون أن ننسى شخصيات جد مهمة تلعب دور الوسيط بين الجمهور والفرسان لتلهب المشاعر والوجدان وتكتمل الفرجة، حيث تؤدي بتلقائية حركاتها الممجدة وطقوسها البهلوانية في حضرة قائد السربة بعد أداء مهمته صحبة رفاقه "الباردية" على الوجه الأتم داخل "ميدان التبوريدة".. إنه الموقف الشعبي الذي يرمز للعشق الأزلي للفروسية من خلال الحضور والفرجة والاستمتاع بالأغاني والمواويل والصيحات ورمي العمامات في الأعالي، وتكسير الجرار ورمي الحلوى والمكسرات من الفواكه الجافة في اتجاه الحشود، حيث تتشكل صورة الفارس/ القائد للسربة (علام الخيل) وهو يتأبط بندقيته التقليدية (المكحلة) رفقة كتيبته من الفرسان المزينين بأبهى الألبسة التقليدية (السلهام/ والجلباب/ الحيك/ القفطان/ العمامة/ السيف أو الخنجر/ الدليل/ التماك.....) التي يتفنن في حياكتها وتفصيلها وخياطتها الصانع التقليدي المغربي الذي أبدع كذلك في تقديم أجمل السروج وأبهاها، لتكتمل الصورة التراثية للحصان وراكبه داخل محرك/ مجبد الخير مع لمة لحباب.

ونستنطق تاريخ الثقافة الشعبية لافتحاص وتدقيق القاسم المشترك بين ماضي وحاضر ومستقبل مورثنا الشعبي (الفروسية) حيث أن كل طقوس الركوب والرماية والحركات البهلوانية، ورموز الألبسة والسروج ودلالاتها، وخيام الاستقبال والإقامة (لوثاق) وكرم الفرسان الحاتمي وشعبيتهم وحضورهم الدائم رفقة محبيهم ودويهم وعائلاتهم ومشجعيهم، يؤكد أن الامتداد التاريخي للبطولات والأمجاد الوطنية حاضر بقوة في هذا المجال.. ويروم توريث الشجاعة والبسالة لفرسان الحاضر (الباردية) ولجيل التبوريدة من شباب اليوم من خلال العديد من التمثلات والصور والعبر والرسائل... فكل المتتبعين يجمعون على أن طقوس الركوب مازالت حاضرة بقوة في كل مهرجانات الوطن ومواسمه الخالدة فلا يمكن امتطاء صهوة الحصان دون القيام بواجبات اتجاه الذات الراكبة والمركوبة (الجواد والفارس) من طهارة وصلاة ودعاء واستحضار كل قيم النبل والشهامة والحشمة والوقار والثبات..

وتختلف طرق وطقوس الركوب من مجال إلى آخر حسب خصوصية الموروث التراثي وثقافتنا الشعبية في ميدان الفروسية التقليدية، حيث تتعدد الحركات وتتشابه وتلتقي وتتفرق وفق العديد من المدارس والزوايا وبين السهل والجبل، حيث تتخلل ألعاب الفروسية/ التبوريدة حركات مثل التدبيبة (التدريجة) التي يشترط فيها الخط المستقيم للخيول وكذا البنادق (لمكاحل) عند الرفعة، ثم التشميسة والكرنة والخرطة، بنظام وانتظام مثل سمفونية موحدة على إيقاع مايسترو متزن وحاذق البال، يقود كتيبة عسكرية غاية في التنسيق والإحكام وهو يردد على مسامع الفرسان مقاطع من التوجيهات والنصائح تكاد تسمع كالابتهالات الربانية والصوفية، الممزوجة بالصرامة والانضباط العسكري في أفق توحد ذات الفارس مع الفرس وتحديد بوصلتهما عبر إشارة دقيقة تلتقطها الأذن كفرصة لإطلاق البارود الموحد في سماء الفرح.

لهذا تجد الفرسان الذين ورثوا الفروسية الجهادية منذ القدم، وخبروا ميدانها كرا وفرا، يمتلكون من الحس الفرجوي ما يجعلهم في مقدمة سربات الخيل وطنيا من حيث حركات فن الركوب وطقوسه الممزوجة بكل تلاوين الشجاعة والإقدام، ما يحول بعض المهرجانات قبلة لعشاق الخيل والبارود وأكثر استقطابا لسربات الخيول والفرسان من مختلف مناطق الوطن للاحتكاك والمنافسة والظفر "ببركة" تاريخ الأسلاف والأجداد.

ونختم هذه الورقة بفقرة من إحدى خطابات الملك محمد السادس وأهم ما جاء فيها: ".... هكذا كان لمجتمعات عديدة أن تبني صرح حضارتها معتمدة عما تتناقله الأجيال بقوة الكلمة وبفعل الموضوع الموعظة وحسن السلوك وبحكمة السير والحكاية والأمثال، فساهمت بذلك في إغناء الحضارة الإنسانية إغناء لا يستهان به، مما يحتم علينا إيلاء هذا التراث ورموزه من اهتماماتنا لأنه مهدد بالانقراض أكثر من غيره ولأنه بمثابة ثروة لا تعوض"...