ينص الباب الخامس المتعلق بتنظيم العلاقات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من دستور المملكة في فصله المائة على تخصيص جلسة أسبوعية لأسئلة أعضاء مجلسي البرلمان وأجوبة الحكومة، كما نص على تخصيص جلسة شهرية لطرح أسئلة على رئيس الحكومة، مما يعني أن هاته الجلسات مدسترة، وبالتالي يجب أن تكون مهابتها من مهابة الدستور، لكن على مستوى التفعيل حادت عن الصواب فأضحت مسرحية، أبطالها سياسيون راهن عليهم الشعب المغربي، والجمهور مواطنون يضحكون ملء فمهم من شر بلية ابتلوا بها، فشر البلية ما يضحك، مما جعل جلسات البرلمان، لاسيما جلسة الأسئلة الشهرية تحظى بنسبة كبيرة من المشاهدين، لأنها أصبحت مسرحا مغرقا في الشعبوية بمفهومها السلبي، وبالتهريج المغلف بلغة قبيحة، استعان من خلالها الفاعل السياسي بعالم ابن المقفع، فأصبحنا نسمع في خطابات رسمية وفي جلسات دستورية مصطلحات كالأفاعي، التماسيح، العفاريت، بالإضافة إلى مصطلحات أخرى كالحقارة والسفاهة، فتحولت جلسة الأسئلة الشهرية المدسترة إلى ساحة للتلاسن والسب والشتم بأحقر المصطلحات كالتدليس والارتشاء، (التسلكيط)، بل وصل الأمر إلى توجيه اتهامات خطيرة كتزعم المافيا والانتماء إلى الموساد وتمويل داعش. وهنا أصبح الأمر يستدعي استجلاء الغموض وتبيان الحقيقة، لاسيما وأن المواطن المغربي الآن يطرح مائة سؤال وسؤال حول هذا الموضوع، باعتبار مثل هذا الاتهام لا يمكن أن يصدر عن شخصية وازنة على الساحة السياسية بدون أن تكون لديها دلائل تثبت صحة الاتهام، وفي نفس الوقت يستبعد أن تكون هاته الاتهامات حقيقية. لذا أضحى من الضروري، بل من الواجب على السيد رئيس الحكومة فتح تحقيق حول هذا الموضوع.
فأين نحن من الخطاب السياسي الذي عرفه المغرب مع أول حكومة تناوب، التي أضافت مصطلحات جديدة للمعجم السياسي كالتناوب التوافقي، الانتقال الديمقراطي، الاستحقاقات الانتخابية والتشريعية وتخليق الحياة العامة، إلى غير ذلك من المصطلحات الراقية والمعبرة عن نضج الفاعل السياسي. لا شك أن شخصية الفاعل السياسي القيادي تنعكس على خطابه، وبالتالي على المشهد السياسي بصفة عامة. فنحن نأسف لما آل إليه خطاب السياسيين من خلط بين الجدال السياسي والذي يعتبر أمرا مشروعا، وبين الخوض في الحياة الشخصية والسب والقذف وتلفيق التهم، والسجال مع عدم ضبط اللغة والنفس.
فوجود معارضة قوية قادرة على المراقبة والتتبع والنقد وطرح الأسئلة تفعيلا للمكانة المهمة التي منحها إياها الفصل 10 من الدستور شيء مهم وأساسي، والتدافع السياسي ظاهرة صحية، لكن يجب أن يكون في إطار صراع أفكار وليس صراع ألفاظ وتنافس في برامج من شانها حل المعضلات التي تعاني منها جل مؤسسات الدولة، ويجب التمييز بين الخطاب الهادف والخطاب الساقط، وليعلم الفاعل السياسي القيادي أن الخطاب السجالي له تداعيات على الرأي العام فلعله من أسباب العزوف عن العمل السياسي، وعدم الثقة في الأحزاب، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى عزوف شريحة مهمة من المجتمع المغربي عن المشاركة في الانتخابات .
فما يحدث داخل قبة البرلمان يحيلنا على طرح أسئلة من قبيل: هل تدني مستوى الخطاب السياسي ناتج عن:
-الخوف من المحطة الانتخابية المقبلة؟
- ضعف التكوين السياسي؟
- غياب كاريزمات سياسية قوية ومتمكنة؟
- هل الشروخات الموجودة داخل بعض الأحزاب هي التي تلقي بظلالها على المشهد السياسي بوجه عام؟
مهما كانت الأسباب، ومهما اختلفت السيناريوهات يبقى من الواجب على الفاعلين السياسيين الارتقاء بخطابهم إلى مستوى الوثيقة الدستورية واحترام المواطن باعتماد خطاب سياسي مبنيّ على الفعل، والعمل على الالتزام بالقضايا المطروحة جميعِها، حتى يشعر المواطن بان الفاعل السياسي مهتم بقضاياه، فالجلسات الشهرية هي فرصة لمناقشة القضايا العامة، وكذلك فرصة لتفعيل دور المعارضة بتوجيه الأسئلة، حتى تمارس الدور المهم الذي أناطه بها دستور المملكة وليست فرصة لتصفية حسابات سياسوية ضيقة على حساب مصلحة الوطن والمواطنين.
والخطاب الملكي السامي الذي ألقاه صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية التاسعة بتاريخ 10 أكتوبر 2014 مؤشر قوي على تدني الخطاب السياسي وفيما يلي مقتطف منه:
"... غير أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، وبكل إلحاح: هل تمت مواكبة هذا التقدم، من طرف جميع الفاعلين السياسيين، على مستوى الخطاب والممارسة؟ إن الخطاب السياسي يقتضي الصدق مع المواطن، والموضوعية في التحليل، والاحترام بين جميع الفاعلين، بما يجعل منهم شركاء في خدمة الوطن، وليس فرقاء سياسيين، تفرق بينهم المصالح الضيقة.
غير أن المتتبع للمشهد السياسي الوطني عموما، والبرلماني خصوصا يلاحظ أن الخطاب السياسي، لا يرقى دائما إلى مستوى ما يتطلع إليه المواطن، لأنه شديد الارتباط بالحسابات الحزبية والسياسوية.
فإذا كان من حق أي حزب سياسي، أو أي برلماني، أن يفكر في مستقبله السياسي، وفي كسب ثقة الناخبين، فإن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب القضايا الوطنية الكبرى، والانشغالات الحقيقية للمواطنين.
أما ممارسة الشأن السياسي، فينبغي أن تقوم بالخصوص، على القرب من المواطن، والتواصل الدائم معه، والالتزام بالقوانين والأخلاقيات، عكس ما يقوم به بعض المنتخبين من تصرفات وسلوكات، تسيء لأنفسهم ولأحزابهم ولوطنهم، وللعمل السياسي، بمعناه النبيل. وهو ما يقتضي اعتماد ميثاق حقيقي لأخلاقيات العمل السياسي، بشكل عام، دون الاقتصار على بعض المواد، المدرجة ضمن النظامين الداخليين لمجلسي البرلمان...".