ومن هنا، يتأكد بأن المغاربة يتكلمون أكثر مما يتواصلون، وحتى إن كان الإجماع عالمي على أن اللغة أولى وسائل الاتصال بين الأفراد، فإنها لا تحظى بالأولوية ذاتها في المغرب، تاركة المجال فسيحا للثرثرة وأشياء أخرى حتى تتسيد مواضيع اللقاءات وفحوى الحوارات. والأكيد أنه إن كان يلاحظ ميول الكثيرين إلى التفكير في الرد بدل الاستماع أولا للمخاطب في العلاقات العامة، فإن ذلك لا يشكل استثناء أو خروجا عن القاعدة المغربية، خاصة إذا ما تم النظر إلى مستوى الخطاب السياسي المفترض أن يكون النموذج في رقي اختيار الألفاظ وانتقاء المفردات، لتُصدم به وهو منحط أسفل السافلين، ليس في المهرجانات الخطابية والتجمعات الجماهيرية فحسب، وإنما أيضا تحت قبة البرلمان الذي انتقلت إليه العدوى كذلك. تلك المؤسسة التي أنشأت أساسا لاختزال صوت الشعب، قبل أن تصبح بألسنة نواب الأمة ورئيس حكومتهم مرتعا مستباحا للهرج والمرج، والكلام الساقط، إلى درجة تحوَّل معها التنافس لخدمة مصالح المواطنين بين فرق الأغلبية والمعارضة، إلى التباهي بإحراز سبق إدخال أتفه العبارات وأخدشها للحياء كإنجاز بطولي جدير بالتفاخر والاستقواء.
ولأن زلات المسؤولين السياسيين ببلدنا لا تأتي فرادى، فإنها لم تكتف بالاقتصار على السب والشتم واستفزازات القذف، بل تمادت لتقتحم الحياة الخاصة للأشخاص وتتطاول على تفاصيلها دون حسيب أو رقيب. والأنكى من كل هذا هو أن الأموات أيضا لم يسلموا من إقحامهم في سجالات المتناحرين السياسيين بالصيغة المغربية، ووظفت أسماؤهم لحسابات ضيقة في بعد تام عما يقتضيه الاحترام الواجب للراحلين إلى دار البقاء.
وعودة على بدء، فإن النتائج التي انتهت إليها الوكالة الوطنية للمواصلات، لم تكن في حقيقتها مناقضة للواقع، بل على العكس من ذلك جاءت خير معبر عنه، لأن التجربة أثبتت بأن كل من يتكلم كثيرا يتواصل قليلا، وكل من يعجز عن معرفة ما يقول يتحدث طويلا. مما لا يبدو معه استغراب في أن يحتفظ كل مواطن بأزيد من هاتف نقال، هذا إن لم يكن المحمول الواحد يحتوي على بطاقتين في صورة أقرب إلى تيليبوتيك متنقل من أي وصف آخر.