من المفارقات الصارخة في المشهد السياسي الراهن أنه حين عبرت الوثيقة الدستورية لسنة 2011 عن نضج نسبي مقارنة مع سابقاتها، حصل اليوم انتكاس حقيقي في حصيلة الأداء الحكومي، سواء على مستوى المردودية الفعلية، أو على مستوى سلوك عدد من الوزراء.
إننا لن نحتاج إلى جهد كبير لتأكيد ضحالة هذه المردودية، فالحصيلة المنجزة على أصعدة كل الوزارات لا تخذل فقط الوعود التي تضمنتها البرامج الانتخابية لأحزاب الأغلبية، ولكنها تخذل كذلك أفق انتظار المغاربة الذين عقدوا أوسع الآمال على حكومة أسفرت عنها استحقاقات غير متنازع حولها.
إن لهذه الحصيلة عنوانا واحدا: الهجوم الشرس على القدرة الشرائية للمواطن، وتعطيل الأمل بإمكان المستقبل، وإشاعة روح التيئيس، وردم كل الإشراقات التي راكمها المغاربة بفضل نضال شرفاء البلاد.
أما الوجه الثاني لهذه الحصيلة فيتمثل في السلوك الحكومي على الصعيد الشخصي، ذلك أن بروفيل بعض الوزراء، خاصة الحزبيين منهم، صار يعكس العبث المطلق الذي لا تضاهيه سوى المسرحيات التي شهدها العالم عقب الحرب العالمية الثانية، حيث الشخصيات تنتظر الذي يأتي ولا يأتي، وتتحدث بجسد بلا ذاكرة، وبلغة بلا معنى، وبقاموس بلا مضمون... إنه الإطار نفسه الذي يتحرك ضمنه وزراء عبد الإله بنكيران، فهم وزراء - ممثلون عبثيون في مسرحية عبثية، مع فارق جوهري، ذلك أن عبث ما بعد الحرب العالمية الثانية كان تعبيرا ضجرا عن فساد العالم، وفقدانه لكل معنى، في حين يعبر عبث الحكومة الملتحية عما يمكن تسميته بلغتنا الدارجة: «الطنز مع تخراج العينين». ولتأكيد ذلك، يمكن أن نحدد الفئتين الأكثر بروزا في هذه الحكومة الكارثية:
الفئة الأولى تعبر عن صنف من الوزراء بارزين بغيابهم، فلا أحد يسمع عنهم أو يعرفهم، أو يطلع على ماذا يفعلون لفائدة المغرب والمغاربة، هم مجرد "جوكيرات» يلهفون المال العام ويرهقون المغاربة، وهذا أولى درجات العبث. أما الفئة الثانية فهي الشاطرة بعبثها الكاريكاتوري، ولذلك أبدعت المخيلة المغربية في نعتها بأوصاف دالة.
هناك أولا وزير «الكراطة» الذي ألحق بالمغاربة أذى كبيرا على مرأى ومسمع العالم بأسره، ومع ذلك، عوض أن يعتذر عما اقترفته مصالح وزارته باعتبار المسؤولية السياسية على الأقل، طلع على الشاشات «يخرج» عينيه، مؤكدا أن ما حدث في ملعب مولاي عبد الله بالعاصمة الرباط يمكن أن يحدث في كل ملاعب العالم، وأن الصخب المرافق للفضيحة يقف وراءه الطابور الخامس، وغيره من الجهات المتآمرة. وكان على المغاربة أن يتحملوا كل ذلك البهتان في غياب موقف حاسم لرئيس الحكومة، إلى أن أنصت الملك للشعب وتجاوب مع المطلب القاضي برد الاعتبار للمغاربة حماية لكرامتهم.
وهناك وزير «الشكلاط» الذي أبانت تسريبات من داخل عقره الحكومي على أنه اقتنى كمية من هذه المادة على حساب المال العمومي.
وهناك وزير «بيت النعاس» أو وزير «الشخير والتمشخير» الذي تفتقت عبقريته على أن ينشئ داخل مقر الوزارة «برتوشا» مجهزا بحمام وسرير لفردين، بدعوى أن عمله الحكومي يقتضي منه البقاء في مكتبه من الساعات الأولى للصباح إلى آخر الليل (وكأنه يعتكف في وزارته لاختراع «قويلبات ديال الكحبة»)، تماما كما لو كان هو المسؤول السامي الوحيد الذي يبقى في إدارته كل هذا الوقت، والحال أن كواليس الوزراء في كل العالم تجعلهم يكتفون فقط بالاستراحة على الأرائك.
هناك كذلك وزير «لبزازل» أو الوزير «كامل الأوصاف» الذين أهان رجال التعليم والتلاميذ والنواب، وتحدث بشكل غير لائق عن الرئيس الأمريكي خلال فترة وزارته في النسخة الأولى. وها هو يمعن في الإساءة حاليا إلى مهنته، وإلى النواب، وإلى المغاربة.
وهناك الوزير الذي أعطى للعبث الوزاري بعدا دوليا بعد أن تداولت الصحافة الوطنية والإيطالية خبر تورطه في أوراق بنت الفقيه بنصالح، روبي المتورطة بدورها في فضيحة الدعارة مع رئيس الوزراء الإيطالي السابق بيرلوسكوني.
إضافة إلى وزير التربية الوطنية، يا حسرة، الذي صرح بجهله للغة العربية خلال لقاء تلفزيوني مع قناة فرانس 24.
أما «روميو وجولييت» الحكومة الملتحية أو الوزيران العاشقان، فهما بطلا المشهد الأخير بدون منازع، مؤقتا، وبذلك فهما بمثابة التوابل والبهارات في مسرحية العبث المغربية، ولا نعرف هل ستكون لهما «السنطيحا» لحضور المجلس الوزاري القادم أم لا، بالنظر إلى أن المجلس الوزاري يترأسه رائد مدونة الأسرة الملك محمد السادس.
يحصل كل ذلك في غياب موقف لرئيس الحكومة من هذا التردي الأخلاقي. والموقف يغيب لا فقط لأنه عاجز عن التدخل، أو لأن شغله الشاغل هو حماية أغلبيته من الانهيار. ولكن لأن عبد الالاه بنكيران هو مؤسس فلسفة العبث والتهريج في الإطار الحكومي. ألم يحول لقاءاته الشهرية في البرلمان إلى موسم للهزل و«لحلاقي»، وإلى تتفيه الحكومة والبرلمان على حد سواء عبر التنكيل صراحة بالمرأة، وبالشباب، وبالعاطلين ذوي الشهادات، وبالوزراء والنواب أنفسهم.
وبعد، أليس من المشروع أن نتساءل عمن يمكن أن يوقف هذا العبث الممارس في حق المغرب والمغاربة.
وماذا يقول المرافعون من أجل ملكية برلمانية تكون فيها كل السلطات في يد الجهاز التنفيذي؟ وماذا لو تحولت هذه السلطات لا قدر الله، في يد وزراء العبث الذين لا يشغلهم سوى هم واحد هو كراسي الحكومة، أما رئيس الحكومة فعينه متجهة فقط نحو الانتخابات القادمة حيث سيقدم نفسه كضحية لـ "لتماسيح والعفاريت" عملا بمبدأ المظلومية التي هي من ثوابت فكر أصوليي العالم.
مجمل القول إن العبث لا يمكن أن يقاوم إلا بالمعقول الذي يعرفه المغاربة حق المعرفة. وهذا المعقول المنتظر لا يمكن أن يقوم به إلا العاقلون والحكماء. وفي تصورنا فإن الطريق الأول إلى الانتصار على العبث هو استقالة الحكومة. أو القيام على الأقل بتعديلات حكومية جوهرية ترمم الخلل الحاصل، وتقوم الاعوجاج الكاسح في السلوك الحكومي، وتعالج أعطاب الحكومة بالصدمة، وإلا فإن ما تقوم به حكومة بنكيران هو اللامسؤولية التي تسيء إلى الدستور، وإلى المؤسسات، وإلى المغرب الذي يطمح كل المغاربة في أن يروه يتقدم نحو استكمال الديمقراطية، ونحو المستقبل، لا أن يتراجع إلى الوراء.
اللهم إننا لا نسألك رد القضاء وإنما نسألك اللطف فيه.