هل يا ترى كان فيكتور هيجو يدرك أن رواية "البؤساء" ستكون فصولها مفتوحة إلى ما لا نهاية في مجتمعات العالم السفلي؟
هل كان يعلم بأن شريحة واسعة من مجتمعنا المغربي تصدق عليهم كلمة البؤساء، وبالتالي يصلحون للعب دور البطولة في روايته؟
أكيد أنه لم يكن يعلم، لكننا نحن كمغاربة نعلم.. نعلم بأن فئة كبيرة من المجتمع المغربي تعيش تحت عتبة الفقر.. وكان من حظهم المشؤوم أن ينهشوا صخرة البؤس منذ صرخة حياتهم الأولى، ليعيشوا رحلة نزيفية لا يستطيع أحد أن يضع لها حدا سوى الموت.
أبطال مقالتي هاته الذين أتحدث عنهم، هم أولئك الذين يقطنون، ما يقال عنها بيوت، بيوت قصديرية لا تقيهم حر شمس الصيف الحارة، ولا برد وزمهرير فصل الشتاء القاسي.. يعيشون والجرذان سويا، وربما يقتسمون نفس الطعام من نفس الأواني.. أبطالي هم من يتسوقون زادهم من القمامات، هم من يتمنظرون بخرير مياه المجاري المكشوفة التي ربما سيعاد استعمالها، إذا تعكر مزاج سعادة المسؤول عن تدبير شان المواطنين وأصدر أوامره بقطع مياه الصنبور الوحيد واليتيم عن حي البؤساء.. أما حينما يسدل الليل ستاره، وتعم الظلمة الحي، فحينها يغامر البئيس بحياته فيتسلق عمود الكهرباء لسرقة خط كهربائي حتى يضيء ليله الحالك، قائلا في قرارة نفسه "نقولب الدولة".
في حين تغزو مجموعة أخرى، أحياء المغرب النافع.. فمنهم من يسرق محافظ النقود في الأسواق المزدحمة أو في الحافلات ويطلق عليهم اسم "الزرامة".. ومنهم من ينتقم من ساكنة المغرب النافع، فيعمل على اغتصاب الأطفال والفتيات، وتشويه وجوههم.. هؤلاء هم زائرو أحياء القسم الأول، الدين لا تحلو لهم الزيارة إلا ليلا، متسترين بجنح الظلام، هروبا من نظرات الاحتقار التي يمكن أن توجه لهم من علياء القوم .
أبطال مقالتي هم ساكنة الكاريان ودور الصفيح، هم من يعيشون تحت خط الفقر .
ماذا قدمت الدولة لهؤلاء البؤساء؟ كيف لا يتمردون على الوضع؟ أليس الفقر كفيلا بان يفرخ لنا مجموعة من المشاكل والإشكاليات التي يستعصي معها الحل؟
فالبؤساء اختاروا أقصر الطرق للحصول على الكرامة والعيش الآدمي، فكانت البداية هي المتاجرة في المخدرات، أي بيع "الجوانات" والماحيا، لتهريب البؤس أو الهروب منه، أو الانضمام إلى عصابات الإجرام المنظمة، قصد الانتقام من مجتمع عمل على تهميشهم ورميهم في غياهب البؤس والفقر المدقع.. وفئة اختارت ركوب أمواج البحر الغادر في عملية قمار قد تربح أو تخسر، فكلاهما سيان .
فالأحياء المنسية مجال خصب لتفريخ خلايا إيديولوجيا التطرف.. ففي غياب الجنة الأرضية يتوق الخوارج الجدد إلى صناعة جنة هلامية للشباب لا يفصله عنها سوى تركيب حزام ناسف ينفجر في مجتمع الجاهلية، وبعد ثوان يجد الانتحاري نفسه في جنة فردوسية تحيط به الحور العين، ويمد يده إلى كل ما لذ وطاب.
نساء وعجائز أحياء البؤس يتوجهن نحو الأولياء، لعل هؤلاء الأولياء ينتشلهن بالبركة الربانية من ضنك الفقر وبؤس المعيش.. فمغربنا السعيد يعج بأضرحة الأولياء والصالحين، فلا يكاد يمر أسبوع إلا وتسمع عن موسم سيدي.. وللا.. فيتوافد الحجاج من كل حدب وصوب، يحملون الشموع والأحزان والملفات المطلبية، فيتبتلون أمام الضريح في طقوس بكائية كاريكاتورية، كأن الأضرحة وزارة التنمية الاجتماعية ومحاربة الفقر.. والدولة تدخل على الخط بتشجيع هاته المواسم بالدعاية لها.. إذ أن المواسم ومختلف الاحتفالات الخرافية وسيلة للضبط الاجتماعي وتزييف الوعي.. فاللهم أن يتجه البؤساء لتفريغ بؤسهم في مزار الأضرحة، ولا يتحول البؤس إلى شحنة تنزل للتظاهر في الشوارع والاعتصام أمام مؤسسات الدولة طلبا للقمة والعيش الكريم.
في حين مراهقات وفتيات مغرب الهوامش يعشن أزمة مزدوجة، أزمة الحرمان الاجتماعي المتوارث وأزمة جاذبية الموضة، فيلجأن إلى اقتناص بعض الدولارات وريالات النفط الخليجي السخي.. إذ أن مقولة "الحرة تموت ولا تأكل من ثدييها" مقولة عفى عليها الزمان.. فتيات طبقة البؤساء يمارسن الانتحار الطبقي المزيف، فيقضين لياليهن الحمر في أفخم الفنادق والشقق، وهن يرتدين ملابس آخر صيحة في عالم الموضة، ويتزين بمساحيق مستوردة من باريس، ويجالسن شخصيات من عالم المال والسياسة والمخدرات، ويحتسين كؤوس النبيذ المعقم، ويتراقصن على نغمات موسيقى صاخبة أو هادئة لإبراز جغرافيا أجسادهن وتضاريس صدورهن قربانا للعطايا ومن يدفع أكثر، ويلوين ألسنتهن لتنطق مختلف لهجات خريطة الوطن العربي الممزق.
وعندما يتنفس الصباح يعود البؤساء إلى قواعدهم وكهوفهم لاحتساء مرارة البؤس وعصارة الأحزان من جديد.