يبدو لأول وهلة وكأن هناك تناقض بقدر طول المسافة بين طنجة المغرب وواغادوغو البوركينافاصو… بين المهرجان الوطني للفيلم وبين مهرجان الفيلم الإفريقي .
المهرجان الوطني للفيلم مهرجان مثير للجدل دورته السادسة عشرة هذه، بشيء من التميز عن الدورات السابقة، بما سبقها من قرارات. من هذه القرارات تلك المتعلقة بلجنتي اختيار أفلام مسابقتيه للفيلمين الطويل والقصير.
والواقع أن الكثير من الملاحظين سجلوا بعض عينوا لاختيار أفلام المسابقتين (كخبرات وكمبدعين ومهنيين) يعتبرون أقل تأهيلا وتمرسا، كيفا وليس كما، ممن عرضت أعمالهم السينمائية للبث في أهليتها لدخول المسابقة من عدمه: سحب بعضهم أعماله نتيجة لذلك؟
من جهة ثانية تكوين لجنتي تحكيم المسابقتين لوحظ أن نواتها الصلبة ذات خبرات "خارج" جوهر التمثل العميق والملائم والمتخصص للكتابة السينمائية في كليتها التقنية والإبداعية التركيبية: من السيناريو إلى المونطاج. فغالبا ما نجد بالتقليد العالمي من بين سبعة أعضاء المؤلفين للجنة التحكيم حوالي النصف أو يزيد، يتم انتقاؤهم بعناية فائقة بحيث تنطبق عليهم شروط: المهنية، الإبداع التراكم الحضور.. وذلك بشكل تتكامل فيه تخصصات داخل اللجنة هي في صلب العملية السينمائية كالتمثيل وكتابة السيناريو والمونطاج والإنتاج بمعناه الثقافي الحرفي في آن، وبالضرورة تقريبا يترأس اللجنة مهني ذا وعي تركيبي وكاريزما معينة في الحقل مهما كان تخصصه لكن تتركب في أعماله وحضوره الشروط السابقة لأن الأمر يتعلق بمعنى ما بمايسترو في حقل السينما. بعد ذلك قد يضيف المنظمون لعضوية اللجنة مهنا تتقاطع والفعل السينمائي الإبداعي والحرفي، لكن بنسبة حضور تمثل أقلية أولا وتحت شرط اقتراب حقيقي من الفعل السينمائي في جوهر تميزه ككتابة فنية وإلا فلم سيحضرون في اللجنة؟
أين نحن من هذه الوصفة الحد الأدنى باعتبار المهرجان الوطني، حقيقة، لحظة سنوية للاحتفاء وللتقويم وللنقاش، حول حقل إستراتيجي تتقاطع فيه التربية والإبداع والتواصل والصناعة الثقافية التكنولوجية المولد، وكذلك تركيب الفنون الجميلة وصناعة النجوم والرموز القدوة للأجيال القادمة؟
منطق الإرضاء وتركيب رغبات المهنيين والجمعيات المنظمة في القطاع بديمقراطية وحصص متفاوض بشأنها نعم لكن، تحت سيادة تصور ثقافي وفني غائي واضح المعالم، وتحت راية معايير حد أدنى تراعي هذه الغايات والقيم الكبرى بصرامة ضد المألوف السائد المستند إلى الخلط والاستسهال والمزاجي والشخصي، وإلا فديمقراطية الأواني النحاسية، كما قال سقراط؟
نحجم، حتى الآن، عن ربط هذا الذي قلناه بسياق كل ما جرى من تعيينات في لجان متعددة تمت بنفس المقاييس وعلى أساس نفس «المنطق»: الكم والعلاقات البعيدة عن تمثل تصور شامل للنجاعة والإبداع وقوة الحقل السينمائي ومساهمته في سياسات بناء مشروع المجتمع. هكذا نلاحط، هنا أيضا، تفاوتا غير مفهوم، بل ومدهش، في التكوين والتجربة والتخصص والخبرة والحساسية (لا يتعلق الأمر البتة بالتكامل) بين أعضاء اللجان، مع تهميش واضح للشغف وللثقافة وللاحتراف السينمائي، لفائدة الإداري و«المحيطي» في الفعل الإبداعي السينمائي.
غالبا ما نسمع أنه من غير المجدي (ربما من المثير للمشاكل وللحساسيات؟؟) أن ينصب مهني حكما على المهنيين!
كانت النتيجة ما كانت عليه في المهرجان الوطني، فهل نعتبر ما حصل بواغادوغو تصحيحا أو غمزة أو صفعة حتى لطنجة ولمعايير تنظيمها؟
لنوضح شيئا أساسيا تلافيا ما أمكن للحساسيات: عندما أتحدث عن العطب ففي البنيوي الذي لا ارتباط له بأشخاص بل بتصورات وبسياسات ومعايير وبتمثلات ورؤى وخطط تابعتها وحللتها وانتقدتها في غاياتها دائما ومنذ ما ينيف عن الربع قرن.
ها قد فاز الفيلم المغربي بواغادوغو احترافيا وموضوعيا من خلال الاحترافية المتقنة الواضحة الرؤية مع هشام العسري وهشام عيوش، ومن خلال سنيفيلية مثابرة وطموحة من خلال عبد الإلاه الجوهري. هو واقع لا مجال للخلط بينه وبين اعتبارات ذاتية تخص الأشخاص في حد ذاتهم. ذلك ما ننطلق منه في كل تناول ما دام الأمر يتعلق بتحكيم غير مغربي، قلبا وقالبا، فماذا حدث بطنجة غير إعادة إنتاج «اندحار» الإبداع بمعنى ما؟
يظل المسؤول عن هذا الوضع، كما العادة في رأيي، هو عدم ملائمة المعايير والخلط بين المبادئ التي تقوم عليها من جهة، وهو من جهة أخرى «ضبابية» المفاهيم المؤسسة لكل فعل في هذا الحقل المركب ومنها أساسا مفاهيم الإبداع والمسؤولية والواجب تحت وطأة الصراعات الصغيرة الكبيرة.