قبل صدور البيان السعودي-المصري المشترك خلال زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الرياض وإجراء محادثات مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، كان الحديث عن ضرورة إنشاء قوة عربية مشتركة يتركز على «داعش» والتصدي له ولم يجر التطرق لإيران وما تفعله في هذه المنطقة، لا تلميحا ولا تصريحا، لكنَّ ما يشير إلى أنَّ تحولا واضحا قد تم على هذا الصعيد أنَّ هذا البيان الآنف الذكر قد تحدث وبكل وضوح عن الدول التي تتدخل في الشؤون العربية الداخلية.. وبالطبع فإن المقصود هو جمهورية إيران الإسلامية التي لم تعد تخفي تمددها في الكثير من دول المنطقة ومن بينها العراق وسوريا ولبنان واليمن.
إنه لا يمكن التقليل من حجم وخطورة التحديات التي يشكلها «داعش» وتشكلها باقي التنظيمات الإرهابية، كـ «النصرة» على سبيل المثال، إنْ ليس لكل الدول العربية فلبعضها، فهذه مسألة باتت محسومة ولا يمكن النقاش فيها لكن ومع الاعتراف بهذه الحقيقة التي غدت تفقأ العيون فإنه يجب إدراك أنْ لا مقارنة إطلاقا بين تهديدات هذا التنظيم الإرهابي لهذه المنطقة وبين تهديدات إيران التي تمس الجوانب الاستراتيجية والتي تستهدف مكانة العرب السنة في المعادلة السياسية الشرق أوسطية.
إن هذا التنظيم الإرهابي الذي تجاوز كل الحدود في جرائمه، والذي أساء أكثر ما أساء للدين الإسلامي الحنيف، هو مجرد مجموعة صغيرة بالإمكان محاصرتها والقضاء عليها في النهاية إنْ في عام أو عامين أو أكثر أو أقل.. وهذا، كما هو معروف، ما كان حصل مع «الخوارج» ومع «القرامطة» ومع «الحشاشين» ومع كل الحركات الطارئة التي ظهرت كالنبات الشيطاني على مجرى نهر الحضارة العربية والتاريخ الإسلامي، والتي ظهرت أيضا في الساحة الفلسطينية في فترة من الفترات كمحاولات اختراق مسيرة العمل الوطني الفلسطيني بدفع من بعض الأنظمة العربية التي حاولت السيطرة على ثورة الشعب الفلسطيني من داخلها.. وهنا فإن كتاب «بندقية للإيجار» لمؤلفه باتريك سيل قد ألقى أضواء كاشفة على حالة واحدة من هذه الحالات هي حالة صبري البنا (أبو نضال) الذي انتهى مقتولا في بغداد عشية الغزو الأميركي للعراق.
لقد عاث «القرامطة» في الأرض فسادا في لحظة تراخت فيها قبضة دولة الخلافة الإسلامية، ولعل ما لا يعرفه البعض، وخاصة الأجيال الشابة، هو أن هؤلاء منعوا المسلمين من أداء فريضة الحج لأكثر من عشرين عاما، وأنهم احتلوا مكة المكرمة واختطفوا الحجر الأسود ولم تتم استعادته إلا بعد عقدين من السنوات، وأنهم تمادوا كثيرا في استباحة حرمات المسلمين ونهب أموالهم وتدمير ممتلكاتهم، لكنهم بالنتيجة لم يستطيعوا الاستمرار، وانتهوا نهاية مأساوية بحيث لم يبق لهم أي أثر لا في التاريخ العربي ولا في التاريخ الإسلامي، وهذا ينطبق كما هو معروف على «الخوارج» وعلى «الحشاشين» الذين اعتبرهم مؤسسهم حسن الصباح خنجر الدولة الفاطمية (الإسماعيلية) الذي لم يتورعوا عن غرسه في خاصرة صلاح الدين الأيوبي لأنه ألغى هذه الدولة، أي الدولة الفاطمية، واستعاد حكم الدولة العباسية في مصر وفي بلاد الشام.
إن المقصود هنا هو أن «داعش» ظاهرة مصيرها الزوال لا محالة مثلها مثل كل التنظيمات والحركات الإرهابية التي عرفها وشهدها هذا العصر إنْ عندنا كعرب وكمسلمين أو عند غيرنا كـ «الألوية الحمراء» الإيطالية وكـ «المافيا» الإيطالية التي أصبحت أميركية وكـ «بادر ماينهوف» الألمانية وكالكثير من حركات التطرف في أميركا اللاتينية وفي أفريقيا.. إن هذه مسألة محسومة، وهي مسألة وقت قريب.. والمعروف أن هذا التنظيم الإرهابي ما كان من الممكن أن ينمو كل هذا النمو وأن يصمد كل هذا الصمود لولا حاضنة العرب السنة التي وفرها له القمع الهمجي الذي تعرض له هؤلاء في عهد بول بريمر وفي عهد نوري المالكي، وبحدود معينة إلى الآن، ولولا التسهيلات التي قدمها نظام بشار الأسد منذ بدايات انطلاقة الثورة السورية وحتى هذه اللحظة.
أما بالنسبة لإيران، فإن الأمور أكثر تعقيدا وأكثر خطورة، فهي أصبحت تهيمن عمليا على أربع دول عربية هي العراق وبالطبع سوريا ولبنان بحدود معينة واليمن.. والأخطر، وهذا معلن ومعروف ولا يستطيع أي كان إنكاره، هو أن هذا التمدد الإيراني قد ترتبت عليه تغييرات «ديموغرافية» خطيرة جدا بحيث أصبح الخيار إما الاستسلام للإرادة الإيرانية والتسليم بالأمر الواقع وإما القبول بالتقسيم المذهبي الذي أصبحت خطوطه العامة واضحة كل الوضوح إنْ في بلاد الرافدين وإنْ في «القطر العربي السوري» وإنْ في اليمن الذي انتزعه الإيرانيون من بين أيدي العرب وهم يتفرجون وبلا حول ولا قوة!!
لقد أصبحت الأمور «فالج لا تعالج»، فالتغلغل الإيراني في هذه الدول العربية الآنفة الذكر، وعلى أساس طائفي، تجاوز كل الحدود.. ولذلك ويقينا أن وطننا العربي سيدخل حقبة إنْ ليس فارسية فإيرانية ستطول بمقدار ما استطالت الحقبة الصفوية إنْ بقينا نتصرف بكل هذا التراخي وبكل هذا الاسترخاء وبكل هذا التردد وإنْ لم تبرز الآن.. الآن وليس غدا طليعة عربية تقبض على إيران من اليد التي تؤلمها وتتدخل في شؤونها الداخلية كما تتدخل في شؤوننا الداخلية وتتعاون من أجل هذه الغاية مع «مجاهدين خلق» ومع كل تشكيلات المعارضة الإيرانية ومع «البلوش» وعرب عربستان وأكراد كرمنشاه.. فالعين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص، ومن ضربك على خدك الأيسر فوجه له ألف ضربة على خده الأيمن.
إنه غير جائز أن يبقى هذا «الطرزان».. قاسم سليماني يتنقل بين حلب ودمشق وجبهات القتال في سوريا وبين بغداد وتكريت وديالى وجبهات القتال في العراق، فهذا معناه أن إيران هي صاحبة الحرب وهي صاحبة القرار في هذين البلدين العربيين، وهي في حقيقة الأمر كذلك، وهذا معناه أن العرب العراقيين، سنة وشيعة، وأن العرب السوريين، سنة وعلويين، سيبقون مختطفين من قبل جمهورية الولي الفقيه وأن العرب كلهم سيبقون كالشاة التي تنتظر خنجر الجزار وسيبقون "العين بصيرة واليد قصيرة"!!
يجب أن تنفتح الدول العربية القادرة والمقتدرة وغير المصابة بالذعر من البعبع الإيراني على العرب الشيعة في العراق.. على القبائل العربية العريقة التي هي تعرف معرفة أكيدة أن المطحنة الفارسية لن توفرها بالنتيجة وعلى العرب العلويين في سوريا الذين باتوا يعترفون بأنهم «قد قدموا أكثر من أربعين ألف شهيد» من أجل الحفاظ على حكم عائلة الأسد وعائلة مخلوف وعلى الفاسدين المتعيشين من هذا النظام الذين يتشبثون به ويريدون بقاءه.. إنه غير جائز أن نبقى نتفرج على إخواننا هؤلاء وعلى أبناء شعبنا وإيران تستخدمهم كخناجر مسمومة ضد أمتهم وضد أبناء شعبهم وهي تمعن في استباحة أوطانهم التي هي جزء من الوطن العربي الكبير.
إن هذه هي الحقائق التي غدت تفقأ عيوننا وإنه إن لم تكن هناك صحوة عربية وإن لم يكن هناك بروز طليعة عربية تنهي كل المشاكل والإشكالات العالقة مع تركيا، فإن القادم سيكون أعظم.. ولذلك فإنه لا بد من التأكد، ومن دون أي تردد، على أن «داعش» يشكل خطرا عابرا ومؤقتا، أما إيران فإنها تشكل خطرا «إستراتيجيا».. إن إيران أخطر من هذا التنظيم الإرهابي بألف مرة، ولهذا فإنه لا يجوز التركيز على هذا التنظيم والانشغال به وترك الحبل على الغارب للإيرانيين الذين تجاوزوا كل الحدود والذين باتت تطلعاتهم وأهدافهم واضحة ومعروفة.
(عن "الشرق الأوسط")