لا يحتاج المرء إلى ميكروسكوب ليلاحظ أن ثمّة إرهاباً همجيّاً تحت قناع “الجهاد الإسلامي ضد الكفرة”، أغلب ضحاياه من المسلمين. وأن ظاهرة الإسلاموفوبيا المواكبة له تنمو اليوم بشدّة، لاسيّما في الأوساط العنصرية في الغرب، معتبرةً الإسلام دينا “غازياً” خطيراً على حضارة الغرب: يغادرُ عقر داره لِينسف ناطحات سحاب في الغرب، ويداهم بنايات صحفه (كشارلي إبدو) لقتل طاقمها ببشاعةٍ تثيرُ تقيوءَ العالَم…
ازدهرت ظاهرة الإسلاموفوبيا اليوم على إيقاع ازدهار هذا الإرهاب بعد تنوُّعِ مصادره: تنظيم القاعدة، بوكو حرام، ودولةٍ رسميّة: داعش، تذبح وتحرق رهائنها بشناعة، وتضع صور مجازرها على الإنترنت بفخر.
إذا كان المرء عنصريّاً، سطحيّاً في نظرته، لا يجيد التمييز بين الإسلام كفكرٍ (يتطور مع الزمن، شأنه شأن بقية الأديان)، ويمكنُ قراءته وتفسيره بأكثر من طريقة؛ وبين الكاريكاتور الإرهابي الشنيع المتستّر باسمه الذي يقرأ نصوصه كما لو كانت “دليل تعليمات” للذبح وللقتل لا غير، فستلتهمه موجة إسلاموفوبيا حادّة، وسيظنّ سريعاً، وبشكلٍ يثير الازدراء، أن الإسلام “محور الشر” وسبب كل مشاكل العالم!
إن لم يكن صاحبنا سطحيّاً فسيحاول دراسة واستيعاب جذور ظاهرة الإسلاموفوبيا وأسباب تناميها. لن يجد حينها صعوبة في إدراك أن للغرب والمجتمعات الإسلامية معاً دوراً في ذلك.
فما يمارسه الغرب من سياسة إذلال وامتهان، سببٌ جوهريٌّ لازدهار الإرهاب (منبع الإسلاموفوبيا الرئيس) الذي تلجأ عصابات متطرفة لاستخدامه كقناعٍ لا غير، وكواجهةٍ فعّالةٍ فتّاكةٍ فقط.
يكفي أن يشاهد صاحبنا عنجهية الطائرات بدون طيار وهي تحرق بالخطأ مئات الأبرياء، ويراقب غارات التحالف الدولي اليوم، بعد حربين سبقتاها في أفغانستان والعراق، برهنتا أن القصف العسكري يلد مزيداً من الانتحاريين والإرهابيين، لأن “العلاج الخاطئ للمرض أسوأ من المرض”. ناهيك عن أنه “لا توجد حرب عسكرية عادلة”. فالحرب ضد الإرهاب حربٌ ثقافية تعليمية بادئ ذي بدء…
"الإذلال أساس الصراعات العنيفة. هو المرض الاجتماعي الذي تعاني منه العلاقات الدولية”، كما قال أحد المفكّرين.
يكفي أن يلاحظ صاحبنا كيف يبرّر الإرهاب المتستّر بالإسلام عملياته النكراء مستغلاً نتائج السياسة الغربية المتغطرسة (التي تضاعف بدورها من ظاهرة الإسلاموفوبيا): صورَ جنودٍ أمريكيين يبولون فوق جثّة طاليباني؛ وآخرين يعذّبون عراقيين في سجن “أبو غريب”؛ فرضَ نظام أبارتايد في الأراضي الفلسطينية المحتلة وبناء مستعمرات إسرائيلية جديدة فيها كل يوم؛ نزيفاً سوريّاً تعدّ ضحاياه بمئات الآلاف، أبادهم نظامٌ ديكتاتوريٌّ دموِيٌّ استثنائي، دون أدنى تدخّل من بقية العالم، كما هو الحال في مناطق أخرى ذات مصالح مالية مباشرة للغرب…
الأغرب أن صاحبنا سيلاحظ أن الدول الإسلامية كانت، حتّى 1989، تُسمّى “الحزام الأخضر” المحيط بالإتحاد السوفيتي. ولم يثر الإسلام حتّى سقوط المعسكر الاشتراكي غليظة أمريكا والغرب.
ثمّ تحوّلت الدول المسلمة في نظرها بعد ذلك، بين عشيّةٍ وضحاها، إلى “حزامٍ أسود” و”معسكر الشر”، وكأن هناك رغبةً في الأوساط الداكنة في الغرب لغرس مفهوم “صدام الحضارات” الذي تتشبّثُ به التيارات الرجعية أو العنصرية هناك، مثلها مثل التيارات الإسلامية الجهادية المتطرفة.
غير أن الجذر الآخر لتفاقم الإسلاموفوبيا محليٌّ لسوء الحظ: حضارتنا الإسلامية التي كانت في قمّة حضارات الأرض في العصور الوسطى تجمّدت عن التطوّر منذ قرونٍ طويلة، ولم تعد قادرة على صنع قطائع ونقلات نوعية تجعلها تساير العصر.
لم تستلهم من حياة الرسول (الذي عدّل أو ألغى كثيراً من الأحكام التي لم تعد تواكب الزمن وجعلها “منسوخة”، خلال عقدين لا غير)، لتُعيد، هي الأخرى، بشكلٍ رسمي، قراءة وتفسير كل ما يتعارض مع حركة التاريخ ومبادئ عصر حقوق الإنسان، لاسيّما مفهوم الجهاد والإرهاب. ولِتحاكم من يدعو إليهما في هذا المنبر أو ذاك.
ليس ثمّة شك في أن عدم وجود إصلاحات جريئةٍ في بنيتنا الثقافية، تنقلنا من مفاهيم القرون الوسطى إلى مفاهيم حرية وديمقراطية وحقوق الإنسان في القرن الواحد والعشرين، هو أحد أهم أسباب تقوقعنا الحضاري وانتعاش المشاريع الجهادية التي انبثقت منها ظاهرة الإسلاموفوبيا الدولية.
تتعدّد انعكاسات الإسلاموفوبيا اليوم في الغرب، على مختلف الأصعدة الاجتماعية والسياسية والثقافية، أكثر من أي وقتٍ مضى:
تراها أحياناً تعبيراً عن مجرّد قلق طافح (يطلق عليه “الإسلاموفوبيا النيّرة”!) من قوى تقدميّة غربية أقرفها تأخر معظم الدول الإسلامية عن اللحاق بركب الديمقراطية، وعصرنة وضع المرأة.
وتراها غالباً مختفيةً في بعض النظرات والتعليقات الشعبية البليدة التي توصم المسلمين بعداء النظام الجمهوري والعلمانية، ومناصرة الإرهاب. أو قبيحةً عنصريّةً في نشاطات اليمين المتطرف الفاشي في أكثر من بلدٍ أوربي (لاسيّما ألمانيا، حيث خرجت في درسدن، بشرقها، مظاهرات إسلاموفوبية ضمّت، في البدء، حوالي عشرين ألف متظاهر، قبل أن تضمحِّل مؤخراً). أو شعبويّة تثير التقزز في تصريحات أكثر من سياسيٍّ يبحث عبرها عن كسب أصوات انتخابية، مثل رئيس بلديةٍ إيطالية منع بناء مسجد بحجة أنه "مرّشحٌ ليكون مصدر إرهاب"!
تداهمك في تصريحات بغيضة لواجهات إعلامية، كعبارة رئيس التحرير السابق ل “جريدة باريس” فيليب تيسون: “المسلمون مصدر الخراءَ”، الذي وجهت عليه دعوة قضائية بسببها؛ أو في عبارات نابية، لاقت إدانات رسميّة كثيرة، لإيريك زيمور (صاحب الكتاب اليميني المتطرف: “الانتحار الفرنسي”، الذي لقي رواجا هائلاً مؤخراً) حول كون داعش التطبيقَ الصادق للإسلام الحقيقي (وكأن محاكم التفتيش وصكوك الغفران هي التطبيق الحقيقي للمسيحية!)، أو تشبيهه طردَ خمسة مليون مسلم من فرنسا (رغم استحالتها كفرضية)، بِطردِ الجزائريين “ذوي الأرجل السوداء” إلى فرنسا عقب استقلال الجزائر.
تتلوّى أمامك في رواية “خضوع” للروائي الشهير ميشيل هولبيك التي لا تحوي أية إسلاموفوبيا مباشرة، بل تخويفاً روائياً ذكيّاً من فرضيّةٍ لا محل لها من الإعرب: مستقبلٍ لفرنسا يصل فيه الإسلام السياسي إلى الحكم، ويغيّر نظام الحياة فيها كليّة بطريقةٍ تنسجم مع الشريعة الإسلامية!…
قادت كل هذه الانعكاسات اليوم إلى عودة مفهومٍ بغيض: “صدام الحضارات” كان قد أوشك على الاختفاء، بعد اندلاع “الربيع العربي” وضمنه للحرية والكرامة.
كما قادت بشكلٍ مثير لِفتح أبواب الجدل من جديد في ثوابت سياسية وفكريّة متنوّعة: أشكال تطبيق العلمانية، أساليب التعايش والتلاحم الاجتماعي، حرية التعبير… التي تختلف طرائق ممارستها من بلدٍ غربيٍّ إلى بلد.
ففي فرنسا مثلاً، حرية التعبير مطلقة للمرء، شريطة أن لا يَسبّ هذه الفئة من الناس وينشر الكراهية والعنصرية والتحريض على القتل وقبوله.
لا يحق له فيها أن يقول مثلاً: “هذا الشخص يهوديٌّ (أو مسيحيٌّ أو مسلمٌ) قذر”. يمنعه القانون من تبرير أو مدح الأبارتايد أو الهولوكوست. لكن النقد والاستهزاء من الأفكار مسموحٌ جدّاً: بالإمكان السخرية من هذا الدين أو ذاك، أو من الإلحاد أيضاً، كأفكارٍ قابلةٍ للنقد والاستثمار الفني الحر!
لعلّ أهم نتائج مواجهة انعكاسات الإسلاموفوبيا هي إعداد مشاريع حكومية جديدة، في أكثر من دولة غربية، تهدف إلى إدخال تعليم “الوقائع الدينية” في المدارس (من وجهة نظرِ التاريخ العلمي، لا الديني)، وإجراء إصلاحات جذرية لتعزيز تعليم العلمانية والقيم الجمهورية، ودمج فئات الضواحي المنغلقة بالحياة العامة، وحماية الأديان، وتشجيع التيارات الإسلامية التنويرية بين مسلمي الغرب المحتكين فيه بحضارات التنوير و"حرية الضمير"، وتقديمها للواجهة، بغية أن تكون نواة الإسلام العصري المنفتح على حضارة اليوم.
لإحباط الإرهاب باسم الدين وتقليص الإسلاموفوبيا الناتجة عنه، يحتاج كوكبنا اليوم إلى ميثاقٍ جيوسياسيٍّ دوليٍّ جديد ينظِّم العلاقات الخارجية للدول (كما تنظِّم العلمانية علاقاتها الداخلية بشكلٍ اقتلعَ فيها جذرياً مسببات الطائفية والحروب الدينية): يمنع الميثاق إقصاء الآخر وإذلاله واستعداءه وكراهيته. يعتبر الحضارة الإنسانية كلّها حضارةً متعانقةً واحدة، متعدِّدةَ المشارب والثقافات والأديان، يربطها الاحترام المتبادل والإخاء والحب الإنساني الدافق.
ونحتاج بجانب ذلك، نحن العرب والمسلمون، قبل أيٍّ كان، إلى إصلاحاتٍ دينية وثقافية واجتماعية جريئةٍ جذرية عميقة، تسمح لنا الانفتاحَ على العصر، ومواكبةَ تطوّر الزمن، ومنع إقحام الدين في السياسة وحصر نفوذه على الحياة الروحية…