بغض النظر عن مدى صحة كلام السيد رئيس الحكومة عن إدارة فريق الوداد البيضاوي، وعن الأسلوب الذي استخدمه في ذلك، يحسب للسيد عبد الإله بن كيران أنه أعطى إشارة الانطلاقة لنقاش علني وصريح لأول مرة في هذا المستوى حول علاقة كرة القدم بالسياسة، والحضور المتواصل لهذه الأخيرة في المجال الرياضي بصفة عامة وفي ميادين الكرة على وجه الخصوص باعتبارها اللعبة الشعبية الأولى في البلاد؛ وذلك منذ أن اعتقد بعض السياسيين من المحترفين والهواة أيضا أن الكرة يمكن أن تكون خير مطية لاكتساب شعبية، أو تحسين صورة أو تمرير سياسات وأحيانا قرارات لا شعبية.
ورغم حديث السيد رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم عن التزامات تلقاها بالحياد الحكومي التام تجاه المنظومة الكروية، فإنه لن يتمكن من إيقاف هذا النقاش ولا حصر تداعياته، إذ من المنتظر أن يظل الموضوع حديث الساعة لمدة طويلة ربما يخفت في بعض الفترات، ولكنه سرعان ما يثور عند أول استحقاق انتخابي ولو جزئي. أما الآن فسيتواصل، لاسيما بعد أن أفصح رئيس الجامعة بقصد أو بغير قصد بأنه كان بصدد الإعداد لقرار توقيف النشاط الكروي على خلفية حدة التجاذبات السياسية التي طالته بغية تهدئة النفوس.
والواضح أن مجرد التفكير في وقف النشاط الكروي والتصريح بأن المشهد الكروي كان قاب قوسين أو أدنى مما لا تحمد عقباه يعني أن شعورا ما قد انتاب المسؤولين بأن الأمور قد بدأت تخرج عن نطاق السيطرة ليس فقط سياسيا، وإنما وهذا هو الأخطر بتداعيات أمنية يمكن أن نستشفها من استخدام ألفاظ موحية في هذا الصدد من قبيل "البلطجة" وما يدور في فلكها؛ وأنه كان يخشى أن تساهم التهجمات المتبادلة بتأجيج المزيد من الاستفزازات الأمنية التي يقوم بها أسبوعيا عدد من المحسوبين على روابط مشجعي أندية كرة القدم، والتي بدأت ترهق وتستنزف الطاقات الأمنية المكلفة بتتبع الظاهرة والتعامل مع تبعاتها.
والواقع، فإن إشارة السيد رئيس الجامعة إلى أن قرار وقف الأنشطة الكروية كان وشيكا حملت أكثر من دلالة:
- لقد كانت بمثابة رسالة ضمنية لأعضاء الجسم الكروي والفاعلين فيه بضرورة الحذر من فخ السقوط في مستنقع السياسة. وأعتقد أن أول من التقط هذه الإشارة هو المكتب المسير لفريق المغرب التطواني، الذي بادر إلى الإعلان أن انضمام أحد أعضائه لحزب سياسي لا يعني أن للفريق الكروي صلة عضوية بذلك الحزب.
- لقد تضمنت تهديدا مبطنا للسياسيين بالابتعاد بخلافاتهم وطموحاتهم وأطماعهم عن ميادين كرة القدم تحت طائلة تحميلهم مسؤولية وقف النشاط الكروي ولو بصفة مؤقتة ولمدة وجيزة. وقد التقط هذه الإشارة، ولكن برفض التهديد رئيس فريق برلماني لحزب من الأغلبية الحكومية، تحدى السيد رئيس الجامعة أن يقدم على خطوة كهذه.
وتأسيسا على ما سبق، وعلى ما تعرفه الساحة الرياضية الحبلى بالمفاجآت، من المستبعد جدا أن يمتثل الفاعلون في الحقل الرياضي لنداء السيد رئيس الجامعة وأن يرتدع السياسيون. فالمؤشرات المستجدة تدل على أنه كلما اقتربت بعض الاستحقاقات الانتخابية ازدادت حمى التدخلات السياسية في الرياضة، ولا يمكن أن يوقفها وعد من زيد أو التزام من عمرو، وذلك للعديد من الأسباب أبرزها:
1/ تجارب الماضي التي أثبتت في العديد من المحطات السياسية المفصلية في البلاد سعي البعض إلى استغلال شعبية بعض نوادي كرة القدم لتكون كرافعة لقوى سياسية جديدة طارئة على الساحة أو لتمرير مفاهيم أو مصطلحات أو تعبيرات سياسية كان يراد لها أن تترسخ وتأخذ مكانها على الساحة الوطنية.
إن مثال النادي الرياضي الذي شكل رافعة لمشروع تأسيس حزب سياسي كان جليا في الماضي في فريق المولودية الوجدية لكرة القدم، الذي يتذكر سكان مدينة وجدة كيف تم توظيفه في عصره الذهبي في السبعينات ليتم حوله وعبر استغلال اسمه، بل وبعض مسيريه لتشكيل ما سمي سنة 1976 "الكتلة الشعبية للدفاع عن مدينة وجدة" استعدادا للانتخابات البلدية آنذاك. ومعلوم أن تلك الكتلة الشعبية هي التي شكلت النواة الأولى لتأسيس حزب سياسي جديد برئاسة الوزير الأول آنذاك، الذي جرت مباركته وقتها رئيسا شرفيا للمولودية.
أما في الحالة الثانية، فالجميع يتذكر كيف شكل فريق الكوكب المراكشي واجهة مثلى لترويج ظاهرة جمعيات السهول والجبال والوديان ونجاعتها. تلك الجمعيات التي كان يراد لها في منتصف الثمانينات وبداية التسعينات أن تكون بديلا للقوى السياسية التقليدية. وقد حصل ذلك من خلال اقتران اسم الكوكب بجمعية الأطلس الكبير، وانضوائهما معا تحت إشراف شخصية واحدة.
ومن غير المستبعد أن بعضا من السياسيين أو المحسوبين على عالم السياسة تراوده أحلام من هذا القبيل، وربما يكون البعض منهم يستحضر دون بحث أو تدقيق ودون مراعاة الفوارق تجربة رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني، الذي ساهم فريق آسي ميلان في أوج ريادته لكرة القدم الأوروبية في زيادة شعبيته.
2/ إن هذه الشعبية المفقودة هي ديدن السياسيين من اللهاث وراء الفرق الرياضية، خصوصا بعد أن تأسست حول هذه الفرق روابط مشجعين Les Ultras تتسم بالتضحية مع الفريق والانضباط في دعمه (مع استثناء الفوضى الذي يثيرها المندسون على تلك الروابط). ويسود الاعتقاد لدى بعض الطارئين على الساحة السياسية أن من السهولة بمكان توظيف هذه الروابط في الدعاية السياسية والترويج الانتخابي وتشويه الخصوم، خاصة إذا ما تمكن من زرع بيادق له ضمن الروابط وقام بتوفير أدوات التشجيع الرياضي لها، وساعدها في التنقلات لمساندة فرقها خارج الميدان.
ولا يمكن أن يعبر مثل هذا اللهاث إلا عن سعي لتعويض قصور الأحزاب في وظيفتها الدستورية المتمثلة بموجب الفصل السابع من دستور 2011 في تأطير المواطنين وتكوينهم السياسي وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام، وتبرير ضمور نشاط الجمعيات الشبابية التي كانت وما زالت تدور في فلك بعض هذه الأحزاب.
وغير خاف على أحد أن القصور والضمور في نشاط الأحزاب وفعالياتها يظهر في أكثر من سلوك طارئ على الحياة السياسية والحزبية في البلاد من قبيل:
- العزوف المتزايد للمواطنين والمواطنات عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة.
- انحسار القاعدة الجماهيرية للأحزاب التي رغم تزايد عددها إلى ما يفوق 35 حزبا، لم يتجاوز عدد المنتسبين إليها نسبة 1% من سكان البلاد. انحسار تترجمه أيضا مبيعات جرائد هذه الأحزاب التي باتت في الحضيض.
- لجوء معظم الأحزاب إلى الاستفادة من ظاهرة الترحال السياسي لمحترفي الانتخابات عبر وسيلة التزكيات، بشكل فضح أن ما يهم الأحزاب من الفصل السابع من الدستور هو المشاركة في ممارسة السلطة بأي شكل من الأشكال، وبأي ثمن، وأحيانا ضد مبادئ الحزب نفسه.
إن الجماهيرية التي تتمتع بها بعض الفرق الرياضية الكروية في مدنها تغري محترفي السياسة الباحثين عن شعبوية هي في الحقيقة متقلبة بالتهافت على تلك الفرق، التي ينساق بعضها أيضا وراء الهالة الإعلامية لبعض "الساسة"، خاصة إذا كانوا ممن يستطيعون تدبير الدعم المالي السخي من مؤسسات عمومية أو من مجالس الجماعات الترابية على اختلافها.
ولكن التجارب برهنت دائما على عدم صواب مثل هذا التهافت المتبادل على المدى المتوسط والبعيد. لقد دخلت المولودية الوجدية متاهة مظلمة منذ أن خبا البريق الإعلامي للشخصيات التي ارتبطت بها، وها هي تتخبط في أتون القسم الوطني الثاني لا تذكر إلا بماضيها. وأكثر منها سوءا نهضة سطات واتحاد سيدي قاسم وشباب المحمدية الغارقة كلها في أوحال قسم الهواة. ومعلوم أن الكوكب المراكشي لم تتمكن من استعادة وهجها إلا في السنوات الأخيرة، وها هي تقاوم وحدها شح السيولة بعد أن جفت ينابيع كانت غزيرة.
وبعيدا عن المظاهر، وما يحاول البعض ترويجه، فإن الواقع الكروي المغربي غير سليم البتة، يتخبط في مرحلة انتقالية بين احتراف مستورد على عجل لمواكبة موجة عالمية، وبين هواية متجذرة على مستوى الممارسة الرياضية وإدارة التسيير معا.، يفتقد الهيكلة المثلى، ويعاني اهتراء عدد كبير من بنياته التحتية مع انعكاس لكل ذلك في تدهور مريع على مستوى النتائج، وغياب شبه كامل عن المحافل الدولية.
لهذا إذا كان لا بد من تدخل سياسي في القطاع الكروي، فليكن بالامتناع عن تأزيمه ونقل فيروس التشرذم والأنا السياسيين إليه، وإنما في اتجاه تقويم الممارسات داخله على الأقل عبر إجراءين مستعجلين الآن هما:
1/ عقلنة ضخ أموال الدولة فيه من الحكومة مباشرة أو من الجماعات الترابية والمؤسسات العمومية من أجل:
- امتصاص التضخم الحاصل في رواتبه وانتقالاته، التي لا تعكس حقيقة مستوى العطاء بقدر ما تخلق تنافسا غير شريف على القليل من المواهب المتوفرة.
- دفع الانتهازيين إلى الانفضاض من حوله عندما يصغر حجم الكعكة، تاركين المكان للشغوفين فقط، الذين ضحوا دوما من أجل متعتهم الكروية وأعطوا الكثير دون أن يأخذوا.
- حث المكاتب المسيرة على البحث عن موارد مالية جديدة للأندية بدلا من الاتكال على الدولة. فلا فائدة من كرة قدم تشكل أسبوعيا أرقا أمنيا متزايدا من دون أن تنتج قيمة مالية مضافة، كما هو سائد في الدول العريقة كرويا، حيث تغذي الفرق خزائن الدول من خلال أداء الضرائب عن مداخيلها المتنوعة، وعن أجور ممارسيها العالية.
2/ وقف مهزلة احتكار عضوية الانخراط وربطها برضا المكاتب المسيرة، إذ لا يعقل أن أندية تتابعها آلاف الجماهير لا يتجاوز منخرطوها العشرات، وبعضها يرفض انخراط أيقونات رياضية صنعت مجد تلك الأندية، مع العلم أن الانخراط يمكن أن يدر مداخيل محترمة على الأندية.
ولا شك أن أي تدخل سياسي في الكرة يسعى لاغتنام فرصة هنا أوهناك بعيدا عن معالجة جوهر أزمة الكرة هو دليل إفلاس على السياسة ينعكس سريعا في شكل تدهور على مستوى الممارسة تترجمه النتائج الكارثية التي أدمناها منذ زمن طويل، حيث آخر إنجاز قاري يمكن الاعتداد به على مستوى المنتخبات الوطنية يعود إلى أكثر من عشر سنوات.