الأستاذ محمد المرابط يكتب متسائلا: هل تخلت الدولة عن مشروعيتها الدينية؟

الأستاذ محمد المرابط يكتب متسائلا: هل تخلت الدولة عن مشروعيتها الدينية؟

التساؤل الذي يحمله عنوان اليوم، هو امتداد من موقع التراكم النظري، لعنوان بالأمس القريب تحت سلطة علامة الاستفهام، "المغرب بلد طائفي؟"، تم نشره في بحر الأسبوع  الماضي من هذا الشهر، بكل من موقع "أنفاس بريس" ويومية "الأحداث المغربية"، كما نقلته بعض المواقع الإلكترونية الأخرى. وهو امتداد أيضا لعنوان "هل المذهب المالكي مهدد بالمغرب؟"، بـ"الاتحاد الاشتراكي" 18/1/2002. وبنفس القدر، هو امتداد أيضا للعديد من المقالات، بغير صيغة الاستفهام، استحضرت المخاطر التي تتهدد الثوابت المذهبية للبلاد، نشرت تباعا في "النشرة"، و"الاتحاد الاشتراكي"، و"الأيام" و"الصحيفة" و"الأحداث المغربية".. منذ 1993 إلى اليوم.

استعملنا عبارة "هل تخلت؟"، عوض "هل فقدت؟"، لإفادة معنى الإرادة والاختيار، وليس معنى الجبر والإكراه. لترتيب سؤال عن: أي هدف تتنازل الدولة عن مشروعيتها الدينية، بالرغم من المخاطر التي ستعصف مستقبلا -لا قدر الله- بالمغرب مجتمعا ودولة؟ لكن يبدو أن هذا الاختيار الواعي ينبني على دواعي إكراهات آنية، مع الأسف يتم تغييب الرؤية الإستراتيجية في التعامل معها، من منطلق الثقة في الاقتدار المغربي كما يجسده تراكمه الحضاري الخلاق.

لن نستعجل ما يندرج في  حكم  الخاتمة، ما دام هناك متسع لترتيب ما يندرج في حكم المقدمات. وهنا لابد من التذكير بأن الدولة المغربية، وهي دولة مدنية، تتمتع بالعديد من أوجه المشروعية، فهناك المشروعية التاريخية والوطنية والديمقراطية، لكن أصل هذه المشروعيات، تمثله المشروعية الدينية. وهذه المشروعية لا تتأسس على مفهوم هلامي للدين، بل على تضاريس، نحتها جدل التاريخ والجغرافيا، لصيرورة الترسيم المذهبي في البلاد، ابتداء من المذهب المالكي وانتهاء بالشاذلية في منظومة التصوف المغربي، مرورا بالعقيدة الأشعرية، وهو ما تأتمنه مرجعية إمارة المؤمنين. بحيث لا يمكن القبول، في ظل هذا الترابط، بتضمين تحملات هذه المرجعية الخلفية المذهبية للأصولية، على النحو الذي يسعى إلى ذلك تدبير هيكلة الحقل الديني، في الوعظ والإرشاد، والخطابة، وميثاق العلماء، والتعليم العتيق..

سؤال تخلي الدولة عن مشروعيتها الدينية، لا يعني فصل الدين عن الدولة، بل يعني الانقلاب على ثوابت البلاد المذهبية، باسم هذه الثوابت. ويستند هذا المخطط الرهيب إلى تواطؤات من جهة، وإلى جهل من جهة ثانية بطبيعة الخصوصية المغربية المتفتحة، وإلى عجز البعض عن الاطلاع بجوهر مسؤولياتهم من جهة ثالثة. هذا المخطط وبفعل منهجية اشتغاله لعقود، أصبح متحكما في القرار الديني الرسمي، وبالتالي يشغل مساحة ليس من السهل تجاوزها، خصوصا إذا استحضرنا وطأة العامل الخارجي. ومع ذلك فعنصر الإرادة الواعية بضرورة الإصلاح أساسي في مسافة رتق الفتق. لكن مع تلازم المسارين السياسي والديني في هذا الإصلاح.

أعتقد أن الذين يمارسون السياسة في الدين، والدين في السياسة، يسعون إلى إلحاق المغرب بمشاريع مذهبية خارجية، إما بجعله ملحقة وهابية أو إخوانية أو شيعية، تابعة لجهات إديولوجية مشرقية. وتتم لهذه الغاية -إلى جانب التبشير المباشر بهذه الإيولوجيات، والطعن في ثوابت البلاد- إعادة قراءة تاريخ المغرب. فالمبلور حاليا القراءة الوهابية لهذا التاريخ، كما أن هناك قراءة شيعية له. وكل قراءة لها مرتكزاتها وتعبيراتها في هذا الباب.

هذا الرهان الخارجي على المغرب، جعل السباق يرسي على مرفأ الوهابية، فالمغرب باعتبار الراجح أصبح بلدا وهابيا. وأن هيكلة الحقل الديني -وهي تسوق وهم  الإصلاح، لا استحقاقاته- أصبحت ترعى هذه الإديولوجية، ومن ثم المساس بمرجعية إمارة المؤمنين، التي يراد لها أن تكون في واقع الأمر، خارج منطق تحملاتها التاريخية. كل هذا يسائل مشروعية الدولة. وهنا نقطة الالتقاء بين التخلي والافتقاد في مسألة هذه المشروعية.

وتفاديا لأي سوء فهم هنا، نذكر بأنه سبق لي أن دعوت لغاية تطوير النقاش السياسي، إلى الفصل بين شخص الملك والنظام، ليتمكن هذا النقاش، من جعل الملك في صلب مهام الإصلاح، خصوصا وقد ساعدت خصاله الإنسانية -والمغاربة قد خبروا صدقه ونبله وشهامته- إلى جانب تبنيه للحداثة والديمقراطية، على تغذية الآمال الكبرى في التغيير. لذلك فنحن نميز في المجال الديني بين التزامات أمير المؤمنين الواضحة من خلال مختلف خطاباته إلى الأمة، أو إلى مختلف الهيآت والمنتديات، ذات الصلة بالمرجعية الدينية للمغاربة، وبين أوجه الخلل الإداري في التدبير، إما لجهل أو تواطؤ أو عجز. نؤكد على هذا الاحتراس المنهجي تفاديا لكل تأويل مغرض، ونحن في هذا نستلهم ما قاله مولاي موحند، كما يحلو لنا في الريف أن نسمي المجاهد ابن عبد الكريم الخطابي بقوله: "مؤولين مرامينا إلى عكس مقاصدها الحقيقية". حيث اعتبر "أن إمارته ليست إمارة ملك، وإنما هي لاجتماع الكلمة" لتحرير الريف من الاستعمار. كما كانت نيته في مكاتبته "للسلطان مولانا يوسف (..) ليتحقق بأننا منقادون لأوامره التي يقضي الدين علينا بطاعته".

لكن الأمر تجاوز حد الاختلال في التدبير وحد التدليس في الآثار والنتائج، ليصل حد المساس بمصداقية مقام صاحب الأمر، فقد تمت الوصاية على معجم أمير المؤمنين كما حصل في الدرس الرمضاني المحتفي بمقدم "الحكومة الملتحية"، إذا استعملنا تعبير الأستاذ المدغري، حيث تم التجريم الديني للحداثة.. والحال أن أمير المؤمنين أعلن في خطاب العرش 2001 عن "المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي". وقبل ذلك كتبنا على عهد الوزير المدغري في "الاتحاد الاشتراكي": "الحداثة من مهيع الهوية، فماذا يخيف الوزير المدغري والقوى المحافظة؟" في 22 يناير 2000. كما وصل الأمر حد تلاوة آيات الحاكمية في حفل إحياء ليلة المولد النبوي في السنة المنصرمة. ويتعلق الأمر بالآيات: 48-49-50، من سورة المائدة، حسب عد المصحف الحسني، أو الآيات: 50-51-52، حسب عد المصحف المحمدي، في سياق الإعلان الرسمي،عن أولى التمثلات للترسيم الدستوري لإسلامية الدولة في ظل موجة الربيع الأصولي.

هذه الجرأة على مقام أمير المؤمنين، حملتنا على قراءتها في "الاتحاد الاشتراكي" و"الأحداث المغربية" (سنرجئ توثيق الإحالات في هذا الجانب، إلى مقالنا المقبل تحت عنوان: "الدولة والمشروع، من المهدي بن تومرت إلى محمد بن الحسن"). فالسياسة الدينية هي الأخرى لها رمزياتها وإشاراتها التي تقتضي إحكام الإحاطة بها، حتى لا تختل الموازين والأهداف. فهناك نزوع قوي لإحكام الوصاية الأصولية على الأفق الحداثي للملك، والثمن هو ضمان الولاء السياسي للدولة على حساب الولاء المذهبي. ومن بين المعطيات الماهدة هنا، أن للمخزن أصوليته، فقد سبق لنا في "النشرة" و"الاتحاد الاشتراكي" و"الأحداث المغربية"، و"الصحيفة"، أن حررنا العديد من المقالات اعتبرنا فيها، "تنظيم" الأستاذ بنكيران بمختلف مسمياته الدينية والسياسية، من"أصولية المخزن". ولعل هذا "الاحتضان" المخزني يضرب في العمق مشروعية الدولة الدينية، وهي تنزلق الآن إلى أن تتحول إلى دولة أصولية.

لذلك فمهام التحرير بين الأمس واليوم متواصلة، من تحرير التراب إلى تحرير الإنسان والمؤسسات. وفي صلب الجهاد الأكبر تبرز مهام رمز الأمة ومسؤوليته التاريخية في حفظ بيضة الدين كما هي مصاغة عندنا في المغرب، كما تبرز في هذا الإطار، مهام السادات (إمرابضن)، والزوايا، والقوى الديمقراطية، لمواجهة كل أنواع النكوص، في صيرورة البناء الوطني المستقل.