من حق الموتى أن يكونوا حطبا إذا شاء الأحياء لغرور بعيد المدى، وليس من حق الموتى أن يشعلوا النار في الجثث لكي تستعر حرب الحضارات، وحرب الديانات وحرب الشعوب..
عندما قتل القتلة صحافيي شارلي إيبدو، لم يقنعونا أن حب الرسول الكريم، الذي نرجو شفاعته في العقل قبل الآخرة، يمكن أن يمر عبر القتل.
القلب الذي يقتل لا يحب.. هكذا رفعنا الشعار المسلم العقدي، ونحن نتوجه إلى الله تعالى بلا حرج.
لكن أن تسعى شارلي إيبدو ، في عددها الذي أصدرته الأربعاء الماضي، مجددا إلى إقناعنا بأن الوفاء إلى الضحايا يمر من جديد عبر نشر الرسوم الساخرة من النبي، فإنها تعني أن الذين ماتوا ماتوا سدى، وأن الرابح هو جدول أعمال الذين قتلوهم.
عليهم، قبل المسلمين، أن يتأملوا حكمة النبي محمد وهو يقول «عظموا أنفسكم بالتغافل».
ستكرس المجلة الرأي المتطرف الذي يعتبر أن أتباع محمد النبي الكريم هم الذين يتدربون في كهوف تورابورا، أو في بيداء اليمن، أو الذين تعلموا أن القتل هو الفريضة الغائبة في الإسلام.
ستكرس المجلة، وهي تسخر من النبي، برسوماتها المقولة التي تقول إن الاختيار كانت قد فرضته الوظيفة الساخرة للمجلة في سياق معين، وليس خطا تحريريا يعتبر الهزل حظ الأنبياء من القرن الواحد والعشرين.
القتلة هم قلة قليلة، لكن الجرح الذي ستحفره الأقلام الرصاصية أكبر من رصاصات القتلة، ستسيح دم مليار ونيف المليار مسلم في العالم، منهم من فضل الموقف الإنساني على عقائد القبيلة ، كان مع الضحايا عوض المجرمين.
ستكرس المجلة، أيضا، البطولة الدموية لمن قتل الرسامين الثلاثة وزملاءهم في جغرافيا أصبحت الوظيفة الوحيدة فيها للدين هو تعميم الشعور بضرورة الانتحار وبضرورة الذبح على مرأى من العالم.
هناك مليار مسلم من «عباد الله الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما»، وما كان لهؤلاء أن تداس عقيدتهم وقداسة نبيهم عليه أزكى الصلوات من ربه الكريم، باسم الرد على اثنين من المجرمين أو من المؤمنين إيمانا منحرفا حتى..
ليس العقل هنا أداة خارج المدار الفني، ولا العقلانية بما هي نتيجة فرنسية الجنسية للعقل البشري مفهوما يستعصي على الصحافة الساخرة، إنهما معا، الجدول العملي للشعوب التي تريد أن تلحق بالركب، بعيدا عن قبائل القتلة والجاهلين والمتعصبين.
إن النبي الذي تسخرون منه تضعون في يده مسدسا، وتطلبون منه أن يعين المؤمنين من أتباع بن لادن والبغدادي، لا من أتباع ابن رشد والجابري أو يوسف الصديق.
والنبي الذي تسخرون منه، غدا، هو الذي سنتبعه دائما، بحب وننتظر أن نراه في المنام لعله يرشدنا.
والقضية ليست قضية سلطة، نحن نفهم كيف تمشي الجمهورية الخامسة في فرنسا، وليس هولاند من عليه أن يتدخل ، ولكن كل الذين خرجوا وعبروا في التلفزيونات والإذعات، من الذين يعتبرون أن فرنسا ليست بلادا محررة من التدين أو العاطفة، بل قبلة الذين يبحثون عن معنى لحياتهم في القرن الواحد والعشرين، كل هؤلاء نطلب منهم أن يتدخلوا لكي يوقفوا دوامة العنف.
لفظيا كان أو فنيا، ونحن لا نساوي بين القتل والكاريكاتور،
ونحن تأملنا وصرخنا ونددنا دفاعا عن قلم الرصاص، لا عن الرصاصة التي يمكن أن توجه إلى مليار ونصف مليار مسلم، في آسيا وفي إفريقيا وأمريكا وأوروبا وفي أستراليا وفي القطبين وفي كل بقاع الأرض.
نريد أن نجد الفرصة سانحة لنقول إن القتلة ليسوا منا، لا أن تغلق الرسوم أفواهنا في بلداننا.
لقد صرخ فرنسي شهير، هو أندري مالرو أن القرن 21 سيكون دينيا أو لا يكون، وصدقت نبوءته.
وبذلك، فليس القرن 21 الإسلامي هو القرن الديني وحده، أبدا، بل هو العالم كله، وهو ما يجعل أن الأنبياء ليسوا شخصيات عمومية يصدق عليهم ما يصدق على الرؤساء والوزراء والملوك والكتاب العامين في الولايات الأمنية، الأنبياء ببساطة هم حظنا من السماء، ولم يكونوا عندما كانت البشرية تفتح الحرية على مصراعيها، لكنهم كانوا عندما كانت تتهجى أبجدياتها، وحرروا العبيد قبلنا، ومنحونا الفرصة البشرية التي منعتنا منها الجاهليات كلها، بما فهي الجاهلية الجديدة.
على الزملاء أن يختاروا، هل سينتصرون للمسلمين والمؤمنين من كل حدب وصوب الذين تألموا لموتاهم ونددوا، أم الانتصار للقتلة وإعطائهم المسوغ الأخلاقي الواهي لكي يعودوا إلى قاعدتهم السليمة في القتل؟
الاختيار، هنا تكمن الحرية، كما علمنا سارتر..