مغربيات صنعن التاريخ: كنزة زوجة إدريس الأول (6)

مغربيات صنعن التاريخ: كنزة زوجة إدريس الأول (6)

هذه سلسلة من الكتابات التاريخية بصيغة المؤنث لمغربيات صنعن التاريخ، وبصمن مشوارهن من خلال عملية البحث والتنقيب وقراءة الوثائق التاريخية عبر أغلب مجالات الجغرافيا، وإعادة تشكيلها بقلم الأستاذ الباحث مصطفى حمزة، الذي أغنى الخزانة المغربية بإصداراته المهمة، والتي تناول فيها مسار شخصيات كان لها الحضور القوي على مستوى التاريخ الجهوي والوطني. ولتقريب القراء من هذا النبش والبحث المضني، اختارت "أنفاس بريس" عينة من النساء المغربيات (25 شخصية نسائية) اللواتي سطرن ملاحم وبطولات وتبوؤهن لمراكز القرار والتأثير فيها فقهيا وثقافيا وسياسيا وعسكريا.

ـ كنزة زوج إدريسالأول: الحكمة وتدبير شؤون الحكم

لم تكن إشارة كنزة، زوج إدريس الأول، لحفيدها محمد بن إدريس الثاني، بتعيين إخوته ولاة على أقاليم المغرب، سوى ترجمة لما راكمته هذه السيدة من خبرة في تدبير أمور الدولة، وما اكتسبته من دراية وحنكة في تدبير شؤون الحكم.

وما يؤكد تمرس ابنة أوبة (أعظم قبائل المغرب في ذلك الوقت وأكثرها عددا وأشدها قوة وبأسا وأحدها شوكة)، حسب صاحب "الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس"، وتضلعها في فن تدبير علم الممكن، أن إخوة محمد بن إدريس الثاني لما عينهم ولاة على أقاليم المغرب، ظلوا يلتزمون بيعته، ويعلنون طاعته، ويعزل منهم من عصى أمره، عكس ما اعتقده الكثير من المؤرخين المغاربة (قدامى ومحدثين) حين فهموا أنه قسم ملك أبيه على إخوته فصاروا مستقلين عنه، يقول عبد الوهاب بن منصور.

فأم إدريس الثاني، التي اختلف المؤرخون في نسبها، كما اختلف الناس حول وجود قبرها، إذ يعتقد البعض في وجوده بفاس قرب ضريح ابنها إدريس الثاني، والصواب أنه يوجد بجوار زوجها إدريس في رابطة زرهون، حسب مؤرخ المملكة، "كانت موصوفة بالحسن والحياء وكما العقل والدين". ولم يعوزها صبر وتجلد المؤمنات الصادقات في الأقوال والأفعال.

فقد انتزعت يد الغدر والخيانة من ابنة وليلي، زوجها إدريس الأول باسم الولاء والمحبة لآل البيت، وهي في شهرها السابع تحمل في رحمها جنينا، وفي قلبها تفاؤلا بالمستقبل، لا يفقه كنهه من وضعت على قلوبهم غشاوة.

استمعت ابنة قبيلة نفزة، لكلام راشد، مولى إدريس، لرؤساء القبائل، وهو يخبرهم باغتيال زوجها على يد سليمان بن جرير الشماخ، وبأمرها، فلم تنبس ببنت شفة وظلت صابرة متجلدة، تحمل ذلك الأمل الذي يملأ قلب كل أم وهي تنتظر أول مولود لها في زمن رجولي لم يكن يسمح فيه بتدبير شؤون الدول إلا للذكور.
لم يخطر ببال الكثير ممن عايشوا ابنة شيخ قبيلة أوربة، أن الأمل الذي كان يملأ قلبها، سيشع نورا معلنا استمرار الدولة الإدريسية بالمغرب، "فقد أتمت أشهر حملها، فوضعت غلاما أشبه الناس بوالده إدريس رحمه الله، فأخرجه راشد إلى رؤساء البربر حتى نظروا إليه، فقالوا هذا هو إدريس بعينه كأنه لم يمت، فسماه راشد باسم أبيه وقام بأمره وأمر البربر..."، يقول ابن أبي زرع.

كبر إدريس، وكبرت معه تجربة كنزة في تدبير حياة الأمراء وتسيير شؤونهم، وازدادت هذه التجربة مراسا وتعمقا بدخول كنزة مدينة فاس، التي قال في حقها المولى إدريس الثاني عند شروعه في بنائها «اللهم اجعلها دار علم وفقه يتلى بها كتابك وتقام بها حدودك، واجعل أهلها مستمسكين بالسنة والجماعة ما أبقيتها»، فصارت مقرا للكثير من العلماء والفقهاء والصلحاء والأدباء والأطباء وغيرهم، يقول صاحب القرطاس.

الصبر والتجلد والحكمة، نياشين رصع بها مسار كنزة التاريخي، فقد اختطفت منها يد الغدر والخيانة زجها وابنها لم يتمم بعد شهره السابع، واختطف منها المنون ابنها إدريس الثاني وهو لم يتجاوز ربيعه السادس والثلاثون، ومع ذلك ظلت صامدة وشامخة شموخ آل إدريس في تاريخ المغرب.

لم تبخل كنزة، التي عاشت في كنف ابنها إدريس الثاني، وتوفيت في عهد حفيدها محمد بن إدريس، بتقديم النصح والاستشارة في مجال فن تدبير الممكن، إلى حفيدها محمد بن إدريس الثاني، إلى أن فارقت الحياة.