أكد حسين ساف، مستشار في الانتقال الرقمي وعلوم البيانات، على أهمية هذا الموضوع، وهذه الأهمية التي دفعت منظمة اليونسكو لتجتهد من اجل وضع مؤشرات خاصة بالحلقة الهامة لكن الضعيفة المرتبطة بالتراث الثقافي اللامادي في أفق 2030.
وأوضح ساف في حوار مع "أنفاس بريس"، كيف جمعت اليونسكو بين المؤشرات العالمية المرتبطة أساسا بحجم ميزانيات الدول المخصصة لتمويل مشاريع هذا القطاع الاستراتيجي، مع المؤشرات الوطنية، من أهمها ما هو مرتبط برقمنة التراث الثقافي اللامادي ومدى نجاعة الاستراتيجيات التي تتبناها الأطراف المعنية؛ مؤسسات حكومية وقطاع خاص ومجتمع مدني واكاديمي؛ وما تفرزه من نتائج قابلة للقياس ومنها البحث العلمي وعدد المهرجانات الوطنية ومعدل تلاقح الأجيال القديمة بالشباب.
ما هو دور التراث الثقافي بشقيه المادي واللامادي في صون ذاكرة المستقبل؟
الثقافة والتراث ركيزتين للتنمية المستدامة. ويمكن للثقافة المادية واللامادية أن تساهم في نموها الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والسياحة المستدامة، أي بناء نموذج وطني متكامل لصون وتثمين التراث اللامادي المغربي، يعتمد على التوثيق العلمي، والتأهيل الرقمي، والتمكين المؤسساتي، ويستهدف خلق منظومة وطنية متناسقة تربط بين المعرفة الأكاديمية والممارسة الميدانية.
ما هي شروط نجاح هذه المقاربة؟
هذه الرؤية لازم أن تتبنى مقاربةً شمولية تتقاطع فيها أربعة محاور استراتيجية:
- التراث كذاكرة حية وهوية جامعة.
- الرقمنة كوسيلة للحماية والتداول المعرفي.
- الثقافة كرافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
- السياحة المستدامة كأفق لتثمين التراث وإشعاعه.
إن أي مشروع من هذا الصنف لا يجب أن يقتصر على حفظ التراث وتوثيقه، بل عليه أن يسعى إلى إعادة إدماجه في الدورة الإنتاجية والثقافية للمجتمع، من خلال إنشاء مؤسسات متخصصة، ومتاحف موضوعاتية، ومنصات رقمية تفاعلية تجعل من الثقافة المغربية تجربة معاصرة منفتحة على المستقبل.
ما هي الشروط الضرورية لاطلاق مشروع من هذا الصنف؟
الشرط الأول: توفر مرحلة تجريبية أي مرحلة التأسيس المفاهيمي للمشروع، لوضع الإطار النظري الذي تنبني عليه المراحل التنفيذية ، التي تجسّد الانتقال من المبادئ إلى الممارسة، ومن الفكرة إلى النموذج، وإلى العمل الميداني .بهذا المعنى، يُعتبر إطلاق نواة مرجعية لأي مشروع لصون وتثمين التراث المادي واللامادي
الشرط الثاني: تطوير نموذج رقمي أولي، باعتباره تجربة ميدانية متكاملة في صون التراث اللامادي وتثمينه من خلال الرقمنة، والذكاء الاصطناعي، والمقاربة المجتمعية.
ثم تعمَّيم هذا النموذج لاحقًا ليشمل مختلف الفنون التراثية، في إطار شبكة موضوعاتية تُسهم في بلورة ‘’منظومة متكاملة للتراث الحي المحلي المعروف‘’.
الشرط الثالث: تحويل التراث اللامادي إلى قوة إنتاجية تساهم في التنمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، في مختلف مجالات الثقافة الرقمية، والسياحة المستدامة، والاقتصاد الإبداعي. بفضل الرقمنة التي تكون عملا مؤسساتيا وتشاركيا يجمع بين الدولة والمجتمع المدني والمؤسسات الأكاديمية والقطاع الخاص. يعدف الى دمج الابتكار الرقمي في حفظ التراث ونقله للأجيال القادمة.
ما هي طبيعة المشروع القادر على تحقيق هذه الأهداف؟
نظرا لخصوصية القطاع فلازم توفر شروط أساسية ذات طبيعة خاصة تختلف عما هو جاري به العمل في قطاعات أخرى ومنها الشروط التالية:
- أن يكون مشروعا مرجعيا يمزج بين توثيق الذاكرة والتجربة الجماعية والابتكار الرقمي، وأن يكون أيضا نموذجًا للحكامة الثقافية المندمجة التي تجمع بين الحرفيين، المعلمين، الباحثين، والمبدعين، في بيئة تفاعلية رقمية مفتوحة تتيح نقل الخبرات وتوثيقها وفق معايير علمية.
ـ توفير فضاء توثيقي ومعرفي مخصص لجمع وتوثيق الأرشيفات الصوتية، البصرية، والمكتوبة وأدوات الطقوس والآلات الموسيقية .ويُدار هذا الفضاء بمنهجية علمية تشاركية بالتعاون مع باحثين وجامعات ومؤسسات وطنية ودولية متخصصة في التراث اللامادي.
- توفير فضاء تعليمي وتجريبي لتلقين وتدريب الشباب على العزف على الآلات التقليدية، وفهم الرموز والطقوس التربوية.
- توفير منصة رقمية موحدة تضم منصات رقمية وتطبيقات تفاعلية تتيح للزائرين تجربة متعددة الحواس، تجمع بين الصوت، الصورة، الواقع الافتراضي، والذكاء الاصطناعي لتحسين تجربة الزوار وتوفير الحجز والأداء الإلكتروني عالميا
ـ التعاون عبر الدبلوماسية الثقافية عبر اتفاقيات شراكة إفريقية ، لتبادل الخبرات والتجارب في مجال الذكاء الاصطناعي الثقافي والرقمنة التراثية تقوم على التراث كوسيلة للحوار بين الشعوب، وعلى الثقافة الرقمية كقوة ناعمة للتأثير والتقريب بين الحضارات الإفريقية.
ما هي الحكامة الضرورية للنجاح وكسب الرهان؟
- الشراكات التي نص عليها البند السابع عشر من أهداف التنمية المستدامة
من الضروري اعتماد نموذج التمكين عبر الشراكة، الذي يمنح التعاونيات المحلية دورًا محوريًا في تطوير المنتجات الثقافية التراثية وتقديم خدمات التكوين والورشات داخل المتاحف الجهوية والمساهمة في تصميم المحتوى الرقمي الموجّه للسياحة الثقافية.
- إشراك الحرفيين والفنانين في صنع القرار مما يعزز مبدأ الملكية المشتركة للتراث.
- برامج التمكين الاجتماعي والاقتصادي للشباب والنساء بما يضمن عدالة الفرص واستدامة التأثير.
ـ تفعيل الدبلوماسية الثقافية الرقمية من خلال إنشاء شبكات تعاون إفريقية و أورومتوسطية تُعنى بالتراث اللامادي، وتعمل على تبادل الخبرات والبيانات عبر المنصات المشتركة.
ـ عقد شراكات استراتيجية مع منظمات دولية (اليونسكو، الاتحاد الإفريقي، المعهد العربي للثقافة الرقمية...) لتطوير مشاريع بحثية وتكوينية في مجال التراث الحي.
- تنظيم ملتقيات ومهرجانات قارية تحتضنها المملكة المغربية لتسليط الضوء على الثقافة الإفريقية المشتركة، وربط التراث بالتنمية المستدامة والسياحة الثقافية المسؤولة.

وفي الختام، خير ما أختم به هذا الحوار القيم، هو شهادتي كإعلامي اشتغل في عدة قطاعات جعلتني أقتنع قناعة راسخة بأن مجال الثقافة بشقيها المادي واللامادي يتميز بميزة منفردة ذات قيمة مضافة تميزها عن كل المجالات الأخرى وهي الجمع بين الابتكار والابداع المتجدد واللامحدود . إذ يُجسّد الثراث المادي واللامادي ذاكرة ماضية وطاقة إنتاجية مستقبلية، ورأسمال ثقافي واقتصادي ومعرفي متجدد قادر على أن يُسهم بفعالية في التنمية المستدامة لاي بلد .
إن الرهان الحالي يكمن في القدرة على صون التراث، والعمل على إعادة إدماجه في الحياة المعاصرة، عبر الرقمنة، والتكوين، والسياحة، والابتكار، والابداع، ليصبح التراث الحي وسيلة لتقوية الانتماء الوطني وتعزيز مكانة البلاد كجسر حضاري مع الأمم.