يثير مشروع تعديل قانون مهنة المحاماة، إشكالية حقوقية، ذات أبعاد متعددة، واختلاف في الرؤى والتقدير حسب الجهات المعنية.
هذا الواقع له مراجع وأسباب وغايات وأهداف، وحتى مصالح.
والأسئلة التي تطرح، حول موضوع الاختلاف وأسبابه، وخاصة بين ممثلي المحامين، والمؤسسة الحكومية، والدستورية، سببه ربما هو اختلاف رؤى الأطراف الموضوعية وحتى الذاتية.
والجدير بالذكر، هو أن تعديل قانون مهنة المحاماة تاريخيا لا يجري، كما هو ثابت بالواقع، إلا بعد الحوار بين المحامين ممثلين في مؤسساتهم التمثيلية المهنية، وبين الحكومة ممثلة في وزارة العدل، مع الأخذ بعين الاعتبار، الوضعية الدستورية لهذه الأخيرة، في دستور 2011، الذي أخرج القضاء من اختصاص وزارة العدل، الذي أصبح مؤسسة دستورية مستقلة عن نفوذ الحكومة، في شخص وزير العدل، الذي ينحصر اختصاصه في تدبير الشؤون الإدارية بالمحاكم، مع ملاحظة أن الواقع العملي يعطي انطباعاً بأن وزارة العدل مازالت من الناحية المعنوية، تمارس اختصاصاتها السابقة عن دستور 2011.
بعد هذه الملاحظة الأولية العامة، يمكن طرح سؤال أساسي في الموضوع، وخاصة عندما يتعلق الأمر، بمجرد تعديل قانون مهنة المحاماة، التي مورست، وتمارس بكل المجتمعات، بوسائل ومساطر قارة، وقواسم مشتركة بين جميع المجتمعات تقريبا، وهوية حقوقية لها طبيعة وخصائص عامة بين جميع المجتمعات المختلفة سياسيا واجتماعيا وجغرافيا ....
بحيث أن مبادئ وقيم مهنة المحاماة قارة، ووظيفتها الحقوقية والإنسانية ثابتة، منذ كانت وستظل لدى جميع المجتمعات مبدئياً، كيفما كانت تركيبتها الاجتماعية، وبناؤها السياسي.
وإذا كانت الوضعية بهذه الصورة، فإنها تطرح بشكل موضوعي وأساسي أسباب الخلاف، بين جمعية هيآت المحامين، ووزارة العدل، حول موضوع التعديلات التي يراد إدخالها على قانون مهنة المحاماة.
وفي هذا الصدد، لابد من طرح سؤال يفرض نفسه -والحالة هذه- هو: هل هناك ضرورة فرضها الواقع الحقوقي، أو العملي، لتعديل القانون ؟.
وإذا كان الجواب بالإيجاب، فما هي محددات هذه الضرورة، التي بنيت عليها الرغبة في تعديل تشريع المهنة الحالي؟.
إذ المفروض، قبل الشروع في وضع نصوص التعديلات، أن تتم قراءة، للتشريع المهني الحالي، ولواقع الممارسة المهنية في مجال العدالة، وتحديد مكامن الخلل أو الضعف، في البناء المؤسسي للمحاماة، أو الإخلالات التي تفرزها الممارسة المهنية، التي أصبحت تشكل خللاً ينعكس مفعوله على المحاماة، عملياً وحقوقياً....
إن هذا الرصد للواقع الحقوقي والمهني، هو الذي يبرر المبادرة، وينزع عنها الرغبات الذاتية، التي تشوش على أي عمل أو تشريع، غير مبني على أسس موضوعية، دعت إليها ضرورة الواقع العملي والحقوقي.
والأكيد، أن وضع أرضية عامة، لموضوع تعديل قانون مهنة المحاماة، من طرف لجنة مشتركة، ليس لوضع النصوص القانونية، بل لوضع الأساس الموضوعي لهذه التعديلات، التي تشكل أساساً الأسباب التي فرضت التعديل، وليس عيباً، أن يشترك في هذه العملية التي تشكل القاعدة الموضوعية للتعديل، حتى فعاليات المجتمع الفكرية والحقوقية، ومكونات العدالة القضائية، بما فيها المتقاضين، الذين هم طرف أساسي في الحياة العملية لمهنة المحاماة.
ولعل إعداد هذا الرصد الموضوعي لواقع مهنة المحاماة، الذي يبرر أسباب النزول، قبل الإقدام على تعديل قانونها، يشكل ضمانة موضوعية، تلافيا لعدم وجود الاختلافات الجوهرية التي تضمنها المشروع، الذي يجري الخلاف حوله اليوم، سواء كان المشروع الذي قيل أن الاتفاق قد حصل بشأنه، بين الجمعية ووزارة العدل، والذي قيل فيه أكثر مما فيه ربما، أو المشروع المسرب، الذي أنكرت الجمعية مضمونه المتعارض مع ما تم الاتفاق عليه، بين رئيس الجمعية، ووزير العدل.
وعلى كل حال، فإن وضعية الشك بين الطرفين، لا تخدم علاقة الثقة التي يجب أن تسود، كما ظلت راسخة عبر جميع المراحل التاريخية السابقة.
ومما تجدر الإشارة إليه، أن مسودة مشروع قانون المهنة، في نسختها المسربة – إن صحت – تضمنت اختراقات جذرية قد تغير – فيما لو أقرت لا قدر الله – هوية مهنة المحاماة، مما قد يشكل ((كفرا)) وردة عن قيمها، وتبخيسا لنقابات المنتسبين إليها تاريخياً، وطنيا ودوليا، ووصاية تؤكد قصور المحامين ومؤسساتهم المهنية التمثيلية قانونيا وجمعويا، على الاضطلاع بمسؤولياتهم الحقوقية والمهنية، في الوفاء برسالة المحاماة، والشك في كفاءة الجميع، في القدرة على معالجة البناء الحقوقي، ومواجهة الاختلالات – إن وجدت – التي قد تصيب الجسم المهني، مؤسسيا وممارسة.
إن قراءة أولية للمسودة، تؤكد دون عناء، أو كبير تمحيص، كأن هناك جهة اعتبرت، أن مهنة المحاماة فقدت رشدها، ووجب التحجير عليها من طرف الإدارة، دون أن تبرر هذه الأخيرة، دواعي وأسباب هذا القرار، الذي تؤكده نصوص المسودة لكل ذي بصر وبصيرة، والغريب أن واضع المسودة، لم يكلف نفسه حتى مجرد بناء مواقفه على أسباب النزول ودواعيها، طبقاً لما يجري به العمل، قبل وضع أي تشريع.
إنه من خلال تتبع تطورات المشروع المهني، يبدو أن جمعية هيآت المحامين، مسؤولة عما آلت إليه التطورات، إن بالتراخي في اتخاذ المواقف الحاسمة والمسؤولة في الوقت المناسب، وبالحزم الضروري والواجب، في مثل هذه الأحوال، وأن التفهم وحسن النية الزائد عن الحدود، قد يعتبر في - مثل هذه المواقف - سذاجة، وقد اعتبره البعض تواطأ، ننزه جميعة هيآت المحامين ومكوناتها عنه، مع أن ذلك لا يعفيها من المسؤولية التقصيرية...
وعلى كل حال، فالرجوع عن الخطأ فضيلة، فالموضوع مازال مفتوحا على كل الاحتمالات، ومواجهة الوضعية في موضوع مصيري، واجب على المحامين أفراداً ومؤسسات.
فمهنة المحاماة، لها تعريف واحد ووحيد، وأهداف محددة، الأمر الذي يستوجب بالضرورة، أن يتم وضع قانونها، وبناء مؤسساتها، بطريقة، قاسمها المشترك، هو حماية وتحقيق الأهداف العامة، والتي يلخصها مبدأ عالمي أيضا، وهو الحفاظ على حقوق الإنسان المكرسة دوليا، وإنسانيا في نصوصها وروحها، وفي مقدمتها المحاكمة العادلة، التي تعتبر المحاماة ركن من أركانها الأساسية.
وليعلم من يتمنى التحجير على المحاماة، أن الملك الحسن الثاني، قال: " لو لم أكن ملكاً لتمنيت أن أكون محامياً ".
وأن جلالة الملك محمد السادس، قد كرم المحامين بإلباسه بذلة المحاماة من طرف أحد نقبائها في مناسبة عمومية.
فاعتبروا يا أولي الألباب.
ذ/جـلال الطاهــر، محام بهيئة الدار البيضاء