جمال: عودة التساقطات المطرية، الجفاف البنيوي ومخطط المغرب الأخضر.. حين تتصادم الذاكرة المناخية مع الخيار التقنوقراطي

جمال: عودة التساقطات المطرية، الجفاف البنيوي ومخطط المغرب الأخضر.. حين تتصادم الذاكرة المناخية مع الخيار التقنوقراطي إدريس جمال
لم يكن إدراك مركزية الماء في تاريخ المغرب أمرًا عرضيًا أو تقنيًا، بل شكّل منذ البدايات الأولى وعيًا سياسيًا مؤسِّسًا لبناء الدولة واستمرارها.

فمنذ قيام الدولة الإدريسية، ارتبط التحكم في الموارد المائية بالأمن السياسي والاجتماعي، وبقدرة السلطة على تنظيم المجال وضمان الاستقرار العمراني.

فقد أدركت الدولة المغربية، عبر تاريخها الطويل، أن الماء ليس مجرد مورد طبيعي، بل شرط سيادي، وأن تقلب المناخ وحدود المجال الطبيعي عنصران حاسمان في صياغة الاختيارات الكبرى.

هذا الوعي التاريخي تجسّد في أنظمة تقليدية متطورة لتدبير الماء، من الخطارات والسواقي إلى تنظيم الأحواض وتقاسم الموارد، بما يعكس إدراكًا عميقًا لندرة الماء وطابعها البنيوي. ولم يكن ذلك وعيًا تقنيًا محضًا، بل ثقافة دولة تشكّلت على أساس التكيف مع الجفاف الدوري، لا إنكاره أو تجاهله.

وفي العصر الحديث، أعاد الملك الحسن الثاني، رحمه الله، إحياء هذا العمق الاستراتيجي، حين جعل من الماء أولوية سيادية في صلب سياسة الدولة، فقد أطلق مشروعًا وطنيًا طموحًا لبناء السدود، لم يكن ردّ فعل ظرفيًا على سنوات الجفاف، بل تعبيرًا عن قراءة استشرافية بعيدة المدى لطبيعة المناخ المغربي، حيث كان الرهان آنذاك هو تأمين الموارد المائية كشرط للتنمية والاستقرار، وإرساء بنية تحتية قادرة على امتصاص الصدمات المناخية المتكررة.

وقد واصل الملك محمد السادس هذا الاختيار، بل عمّقه، من خلال توسيع مفهوم الأمن المائي وربطه بالتنمية المجالية والعدالة الترابية والاستدامة البيئية، عبر تنويع مصادر الماء، والاستثمار في التحلية، وإعادة استعمال المياه العادمة، وربط قضايا الماء بالسياسات الحضرية والاجتماعية.

غير أن المفارقة الكبرى لا تكمن في غياب الرؤية على مستوى الدولة، بل في ضعف استيعابها حكوميًا.
 فقد ظلت السياسات العمومية، خصوصًا الفلاحية والبيئية، عاجزة عن إدماج الذاكرة المناخية الطويلة للمغرب في اختياراتها الاستراتيجية، وتم التعامل مع الماء في الغالب كعامل إنتاج تقني قابل للتعبئة والتعويض، لا كقيد بنيوي مؤسس للتنمية.

وهكذا، تحوّل الجفاف من إنذار استراتيجي طويل الأمد إلى أزمة ظرفية تُدار بمنطق الاستعجال، وتُرحَّل كلفتها الاجتماعية والمجالية إلى المستقبل.

تتجلى هذه الإشكالية بوضوح مع كل عودة للتساقطات المطرية، حيث يُعاد إنتاج منطق الاطمئنان الظرفي، وكأن تحسّن الموسم المطري كفيل بتبديد خطر الجفاف، هذا السلوك، الذي يمكن توصيفه بـقِصر الذاكرة المناخية، لا يقتصر على الوعي المجتمعي، بل يتغلغل في صلب السياسات العمومية، التي تفضّل إدارة الأزمات الآنية على إعادة النظر في نموذج التنمية برمّته.

في هذا السياق، تكتسي الدراسة الاستشرافية التي أنجزها روبير أمبروجي منتصف تسعينيات القرن الماضي أهمية علمية ومعرفية بالغة. فقد اعتمدت هذه الدراسة على تحليل حلقات نمو أشجار الأرز بالأطلس المتوسط، ما مكّن من إعادة تركيب التاريخ المناخي للمغرب على امتداد ما يقارب ألف سنة؛ وخلصت إلى نتيجة حاسمة:أن الجفاف بالمغرب ظاهرة دورية بنيوية، وليست اختلالًا عابرًا أو نتيجة حصرية للتغير المناخي الحديث، بل إن تاريخ المغرب المناخي يتسم بتعاقب دورات طويلة من الرطوبة والجفاف، ترتبط أحيانًا حتى ببعض الدورات الشمسية.

وتزداد دلالة هذه النتائج حين نلاحظ أن أمبروجي حدّد، بشكل استشرافي، أفق 2023–2024 كمرحلة محتملة لجفاف حاد، وهو ما تأكد ميدانيًا من خلال أزمة الإجهاد المائي غير المسبوقة التي عرفها المغرب، فقد بلغت المخزونات المائية مستويات حرجة، وبرزت توثرات حادة بين حاجيات الماء الصالح للشرب، ومتطلبات الفلاحة، والاستعمالات الصناعية. 

هذه المطابقة بين التوقع العلمي والواقع الميداني تطرح سؤالًا جوهريًا حول مكانة البحث العلمي في القرار العمومي.

غير أن هذه المعطيات، على أهميتها، ظلت خارج دوائر صنع القرار، وهو ما يكشف أحد أعطاب الحكامة البيئية بالمغرب: ضعف إدماج المعرفة العلمية في صياغة السياسات القطاعية، خاصة الفلاحية منها، وهنا يبرز التناقض البنيوي مع مخطط المغرب الأخضر، الذي قُدّم منذ 2008 باعتباره رافعة استراتيجية للتنمية الفلاحية، دون أن يستند فعليًا إلى الذاكرة المناخية الطويلة الأمد للبلاد.

لقد قام مخطط المغرب الأخضر على منطق ليبرالي تقنوقراطي، راهن على تعظيم القيمة المضافة الفلاحية، وتشجيع الزراعات التصديرية ذات الاستهلاك المائي المرتفع، مع افتراض ضمني لاستقرار الموارد المائية، أو على الأقل القدرة التقنية على تعويض ندرتها عبر السدود والتجهيزات الكبرى.

هذا الافتراض، في جوهره، يعكس إنكارًا بنيويًا لحقيقة الجفاف الدوري، وتحويل الماء من مورد استراتيجي نادر إلى مجرد عامل إنتاج قابل للتعبئة التقنية.

وبذلك، لم يكن مخطط المغرب الأخضر مجرد سياسة فلاحية، بل كان في عمقه، اختيارًا مائيًا غير معلن، ساهم في تعميق الإجهاد المائي، من خلال تكريس نموذج فلاحي غير متلائم مع الندرة البنيوية للماء، وتوسيع الزراعات المسقية في مجالات هشة مائيًا، وتعزيز اللاعدالة المجالية في توزيع الموارد المائية بين الفلاحة التصديرية وحاجيات الماء الصالح للشرب.

ومع تسارع آثار التغير المناخي العالمي، لم يعد الجفاف مجرد عودة لدورة مناخية تاريخية، بل تحوّل إلى كارثة بطيئة، تتقاطع فيها الدورية المناخية مع اختيارات تنموية قصيرة النظر. 

فارتفاع درجات الحرارة، وتسارع معدلات التبخر، وتدهور قدرة التربة على الاحتفاظ بالرطوبة، جعلت من نموذج المغرب الأخضر نموذجًا مكلفًا مائيًا وغير قابل للاستدامة، مهما بلغت كثافة الاستثمارات التقنية المصاحبة له.

إن محدودية الحكامة المائية بالمغرب لا تتجلى في غياب المشاريع الكبرى ؛من سدود وتحلية المياه وإعادة استعمال المياه العادمة، بل في استمرار الفصل الوظيفي بين السياسة المائية والسياسة الفلاحية.

فمخطط المغرب الأخضر لم يُبنَ كسياسة تكيّف مع الجفاف البنيوي، بل كسياسة إنكار له، عوّلت على الحل التقني لتعويض الخلل البنيوي، بدل إعادة النظر في منطق الإنتاج نفسه.

وعليه، فإن تجاوز أزمة الجفاف لا يمكن أن يتحقق دون مراجعة نقدية عميقة لمخطط المغرب الأخضر، باعتباره أحد تجليات القصور البنيوي في الحكامة المائية، فالكارثة لا تبدأ حين ينحبس المطر، بل حين يُصرّ صانع القرار العمومي على إعادة إنتاج نموذج تنموي لا يعترف بالحدود البيئية، ولا يستوعب الذاكرة المناخية الطويلة للمجال المغربي.

إن إدماج البعد الاستشرافي في السياسات العمومية يفرض الانتقال من حكومات تتدخل عند الأزمات إلى حكومات تنظّم المخاطر، وتعيد موضعة الماء كركيزة من ركائز السيادة الوطنية، وهو ما يقتضي تكييف النموذج الفلاحي مع الندرة المائية، وتمويل البحث العلمي باعتباره استثمارًا استراتيجيًا، وربط العدالة المجالية بالعدالة المائية.

 فالأمطار، مهما كانت وفيرة، تظل حدثًا عابرًا، بينما تبقى الحكامة المائية اختبارًا دائمًا لقدرة المسؤولين الحكوميين على التعلم من تاريخها المناخي بدل الهروب منه.    

LES PUBLICATIONS DE
L’ACADÉMIE DU ROYAUME DU MAROC
Robert P. AMBROGGI
Membre de l’Académie
Rabat, 2006
LES MÉMOIRES 
D’UN HYDROLOGUE DU XXe SIÈCLE
 
إدريس جمال/ إطار بالشركة الجهوية متعددة الخدمات الدار البيضاء سطات. باحث في التنمية المجالية والماء والبيئة