لا تأتي نهائيات كأس إفريقيا للأمم التي يحتضنها المغرب كحدث رياضي عابر، ولا يمكن اختزالها في مباريات ونتائج وترتيب منتخبات. إنها، في جوهرها، لحظة دالة في مسار العلاقة بين الشعوب الإفريقية، وفرصة نادرة لإعادة الاعتبار لما يجمعها في زمن تكاثرت فيه محاولات التفريق، واشتغلت فيه “ماكينات” الحقد على تسميم الوعي الجماعي وبث الكراهية وتوسيع الشروخ.
لقد أثبتت التجربة أن كرة القدم، رغم بساطة قواعدها، تمتلك قدرة استثنائية على اختراق الجدران النفسية والسياسية التي تعجز عن اختراقها الخطابات الرسمية. فحين يلتقي المشجعون في المدرجات، وتتقاطع الأهازيج والأعلام واللغات، يسقط الكثير مما راكمته الصور النمطية، ويظهر الإنسان في صورته البسيطة: فرِحًا، منكسِرًا، أو حالمًا بنصر رمزي لوطنه.
المغرب، وهو يستضيف هذا الحدث القاري، لا يقدّم فقط ملاعب وبنية تحتية وتنظيمًا محكمًا، بل يقدّم نموذجًا حضاريًا في كيفية تحويل التظاهرات الرياضية إلى فضاءات للتلاقي الإنساني. فالتنوع الثقافي الذي يميز البلاد – أمازيغيًا وعربيًا وإفريقيًا وأندلسيًا وصحراويًا – لا يُعرض كشعار جاهز، بل يُعاش يوميًا في الشارع، وفي سلوك المواطن، وفي تفاصيل الضيافة التي يلمسها الزائر قبل أن يشاهدها على شاشات التلفزة.
ومن زاوية أخرى، تمثل نهائيات كأس إفريقيا للأمم نافذة مفتوحة على المغرب في بعدها السياحي والحضاري. فالكاميرات التي تنقل المباريات تنقل، في الآن نفسه، صور المدن، والمعالم التاريخية، وأنماط العيش، وتعيد تشكيل صورة البلد في المخيال الإفريقي والدولي. وهنا تكمن القوة الحقيقية للحدث: تحويل المشجع العابر إلى شاهد، ثم إلى ناقل لتجربة إنسانية تتجاوز كرة القدم.
لكن القيمة الأعمق لهذه النهائيات تكمن في بعدها الرمزي. فهي تأتي في سياق إفريقي وإقليمي يعرف توترًا في العلاقات، وتضخمًا في خطاب الكراهية، وتوظيفًا ممنهجًا للرياضة أحيانًا في تأجيج العداء بدل تهدئته. وفي مواجهة هذا المسار، تطرح البطولة نموذجًا مغايرًا: التنافس دون خصومة، والاختلاف دون قطيعة.
إن أخطر ما تنتجه خطابات الحقد هو نزع الإنسانية عن الآخر، وتحويله إلى صورة مشوهة أو عدو دائم. أما في فضاء الملاعب المغربية، فإن الآخر يستعيد ملامحه الإنسانية كاملة: مشجع يتقاسم مقعدًا، لاعب يتبادل القميص، نشيد وطني يُصفَّق له احترامًا لا مجاملة. هذه التفاصيل الصغيرة، التي قد تبدو عادية، هي في الواقع لبنات حقيقية لبناء التقارب بين الشعوب.
ولا يمكن إغفال الأثر التربوي لمثل هذه التظاهرات، خاصة على فئة الشباب. فمشاهدة التنافس الشريف، واحترام القواعد، وتقبّل الهزيمة قبل الاحتفال بالنصر، تشكّل دروسًا صامتة في المواطنة والانفتاح وقبول الاختلاف، في زمن بات فيه التعصب أسرع انتشارًا من الفهم.
في المحصلة، فإن نهائيات كأس إفريقيا للأمم بالمغرب ليست مجرد بطولة قارية، بل اختبار أخلاقي وحضاري لقدرة الرياضة على ترميم ما أفسدته السياسة والإعلام المتشنج. وهي رسالة واضحة مفادها أن إفريقيا التي نحتاجها اليوم ليست إفريقيا الصراعات المفتعلة، بل إفريقيا التلاقي، والتنوع، والاعتراف المتبادل.
هنا، تنتصر كرة القدم حين تُحسن الشعوب توظيفها: لا كلعبة فقط، بل كجسر، وكفعل مقاومة ناعم للكراهية، وكأمل صغير في عالم يزداد انقسامًا.
محمد النحيلي/ فاعل مدني ونقابي عضو اتحادات وشبكات دولية باحث في قضايا الطفولة والشبابرئيس منظمة بدائل للطفولة والشباب