محمد بوبوش يعيش العالم المعاصر “حقبة من اللايقين”. فجائحة “كورونا”، وتغيرات المناخ، وأزمات العالم العديدة، وتقلص النفوذ الغربي وصعود القوى الأخرى، ونشوب الصراعات الإقليمية وتحولات مفهوم القوة ، وبزوغ نظام عالمي متعدد الأقطاب، وغيرها من الظواهر التي تتسبب في ارتفاع موجات اللايقين، كلها تدفع إلى الحديث عن قفزة كبيرة إلى الوراء، إلى حالة الخوف والقلق والانهيارات الكبيرة التي صبغت عالم عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.
ويُعد اللايقين أحد المفاهيم الأساسية في السياسة الدولية المعاصرة، وهو يعني عدم اليقين بشأن المستقبل أو عدم القدرة على التنبؤ به. ويلعب اللايقين دورًا مهمًا في السياسة الدولية، حيث يمكن أن يؤدي إلى اتخاذ قرارات خاطئة أو إلى الصراعات.
ومع دخول عام 2026، يظل العالم يواجه تحديات جيوسياسية معقدة يصعب التنبؤ بها بسبب تعقد النظام الدولي، حيث تستمر بعض النزاعات في التصعيد بينما تظهر آفاق محدودة للتسويات في أخرى. يعتمد التحليل على التطورات الأخيرة في نهاية 2025، بما في ذلك جهود الإدارة الأميركية الجديدة تحت الرئيس ترامب لإنهاء بعض الحروب، لكن الواقع يشير إلى استمرار التوترات في معظم الساحات.
غزة (الصراع الإسرائيلي-فلسطيني)
في أكتوبر 2025، تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار برعاية أميركية (خطة ترامب ذات 20 بند)، شمل إطلاق سراح الرهائن المتبقين وانسحاب جزئي إسرائيلي، مع إنشاء هيئة انتقالية دولية لإدارة غزة. ومع ذلك، يظل الاتفاق هشاً: حماس ترفض نزع سلاحها، وإسرائيل تتمسك بحقها في العمليات الأمنية، مع استمرار انتهاكات محدودة أدت إلى مقتل مئات الفلسطينيين منذ الاتفاق
ورغم الهدوء الحذر يتوقع خلال عام 2026 احتمال كبير لاستمرار التوترات المحدودة والنزاعات المجمدة أو تجدد القتال إذا فشلت المرحلة الثانية (نزع سلاح حماس وإعادة إعمار). فمؤشرات التوصل إلى تسوية شاملة تبقى ضعيفة، أمام رفض نتنياهو فكرة دولة فلسطينية مستقلة، لذلك يتوقع أن يبقى الوضع مجمداً مع مخاطر تصعيد في الضفة الغربية. قد تحاول الإدارة الأمريكية ممارسة الضغط للحفاظ على الهدنة الهشة، لكنها ليست سلاماً دائماً.
السودان (الحرب الأهلية بين الجيش وقوات الدعم السريع)
يعرف السودان حربا أهلية بين الإخوة الأعداء منذ 2023 دون وقف إطلاق نار دائم، ورغم أهمية الاقتراحات المقدمة من "الرباعية" (أميركا، السعودية، الإمارات، مصر) لهدنة إنسانية يتبعها انتقال سياسي. فإن نجاح قوات الدعم السريع في السيطرة على دارفور، واستعادة الجيش السيطرة على الخرطوم، مع اتهامات متبادلة بارتكاب فظائع، وأمام تعنت الأطراف يتوقع خلال العام المقبل، تصعيد أكثر واستدامة النزاع، ترافقه مخاطر مجاعة واسعة واحتمال تفكك الدولة. وتبقى فرص التوصل إلى تسوية شامة ضعيفة جدا بسبب رفض الطرفين التفاوض الجاد، ودعم بعض دول الجوار للأطراف، وقد يستمر التقسيم الفعلي شرق-غرب. الضغط الدولي على الجانبين محدود جدا، خصوصا من الجانب العربي، مما يجعل الصراع مستمراً مع خسائر بشرية هائلة.
فنزويلا (الأزمة السياسية تحت مادورو)
بعد انتخابات 2024 المتنازع عليها، يتمسك نيكولاس مادورو بالسلطة رغم أدلة على فوز المعارض إدموندو غونزاليس (الذي لجأ إلى المنفى). بالنسبة الولايات المتحدة فهي تعترف بغونزاليس كرئيس شرعي للبلاد، مع تصعيد عقوبات وتهديدات بالتدخل. من ناحية أخرى، يتوقع أن يعرفالاقتصاد الفنزويلي يعاني تضخماً متوقعاً بنسبة 700% في 2026، مع قمع للمعارضة الداخلية، ولاشك أن الأزمة ستستمر مع مخاطر احتمال تصعيد أميركي (ضربات عسكرية محتملة ضد عصابات أو النظام). لكن تبقى فرص تغيير النظام محدودة جدا دون تدخل خارجي قوي، بسبب الدعم الخارجي من بعض دول الجوار مثل كولومبيا والمكسيك ومن الصين وروسيا، لكن الضغط المستمر قد يؤدي إلى نشوء اضطرابات داخلية أو هجرة إضافية خارج البلاد. التسوية غير مرجحة، مع بقاء مادورو مدعوماً من روسيا والصين.
أوكرانيا (الحرب مع روسيا)
في نهاية 2025، تجري مفاوضات مكثفة برعاية أميركية (خطة ترامب المعدلة)، مع لقاءات في ميامي وفلوريدا بين مبعوثين أميركيين وروس وأوكرانيين. الخطة تشمل وقف إطلاق نار وتنازلات إقليمية محتملة، لكن روسيا تتمسك بمطالب قصوى، وأوكرانيا ترفض التنازل عن أي أراضٍ. قد يشهد العام المقبل تقدما محتملا في المفاوضات، مع وقف إطلاق نار مؤقت إذا نجح الضغط الأميركي، لكن تحقيق سلام شامل قد يبدو بعيد المنال بسبب خلافات حول دونباس وزابوريجيا ، لذلك قد يتصاعد القتال مع خسائر روسية كبيرة، ومما يدعم هذه الفرضية هو انتهاء معاهدة نيو ستارت في فبراير 2026 يضيف توتراً نووياً.
كمبوديا وتايلاند (النزاع الحدودي حول معبد برياه فيهار)
النزاع بين الدولتين الجارتين يعود إلى خرائط استعمارية قديمة، مع سيطرة كمبوديا على المعبد بقرار محكمة دولية 1962، لكن تايلاند تطالب بأراضٍ مجاورة في الآونة الأخيرة تصاعدت التوترات في مع اشتباكات مسلحة وغارات جوية، أدت إلى وقف إطلاق نار في يوليو المنصرم ثم اتفاق سلام في أكتوبر 2025 برعاية ترامب (اتفاق كوالالمبور). غير أن تشخيص الوضع الحالي يشير إلى أن الاتفاق هش وقد ينهار بسبب قومية داخلية (انتخابات تايلاندية محتملة)، مع مخاطر اشتباكات متفرقة. لذلك تبقى فرص إيجاد تسوية دائمة ضعيفة دون ترسيم حدود جديد، لكن الضغط الأميركي قد يحافظ على الهدوء النسبي.
خلاصة عامة:
عام 2026 قد يشهد بعض التهدئة المؤقتة بفضل الدبلوماسية الأميركية النشطة، خاصة في غزة وأوكرانيا وتايلاند-كمبوديا، لكن معظم النزاعات ستستمر بسبب رفض التنازلات الجوهرية وتدخلات خارجية. السودان وفنزويلا الأكثر عرضة للتصعيد، مع مخاطر إنسانية هائلة. السلام الحقيقي يتطلب ضمانات دولية قوية، وهو أمر غير متاح حالياً في ظل عالم متعدد الأقطاب.
محمد بوبوش، أستاذ العلاقات الدولية، جامعة محمد الأول، وجدة