نظم الصالون التربوي التابع للأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين مساء يوم الأربعاء 17 دجنبر 2025، محاضرة فكرية تربوية ألقاها أستاذ الفلسفة والجماليات محمد نور الدين أفاية، في موضوع "في معنى تعلُّم التفكير، اليوم"، وذلك بمدرج المركز الجهوي للتكوينات والملتقيات مولاي سليمان بفاس.
سيَّر الجلسة الأستاذ المخرج السينمائي بوشتى المشروح، حيث قدم الضيف ورحب به، ثم طرح سياق تنظيم هذه المحاضرة، وأسئلتها الإشكالية.
وبعد إنصات الحضور لكلمة موجزة ألقاها مدير الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين الدكتور فؤاد رواضيي، رحب فيها بالحضور وبالضيف المحاضر، وذكر فيها بأهداف الصالون التربوي؛ تناول الكلمة الأستاذ محمد نور الدين أفاية، حيث استهل محاضرته بالوقوف، في البداية، عند أربع معاينات كبرى، تتمثل في:
1- ما يعيشه العالم من اهتزازات وصراعات، ومظاهر إبادة للحياة والإنسانية، كما جرى في حرب العراق واحتلاله، وما حصل في أحداث الربيع العربي وتداعياتها التراجيدية، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إرادة محو وإبادة مُعلنة؛ وكأن الشر صار معتادا ومُطبَّعا معه، كما سبق أن لاحظت ذلك الفيلسوفة حنا أراندت؛
2- بروز وجوه مختلفة لـ "الضحية"، فكل إنسان أو جماعة، يعتبر نفسه أو تعتبر نفسها ضحية؛ ثمة ضحايا حقيقيون من دون شك، لكن الجميع يتهرب من المسؤولية ومن الحساب بكل المبررات الممكنة. مما أدى إلى بروز أجيال جديدة من العنف تعبر عن نفسها تحت ذرائع ثقافية أو دينية أو لغوية أو غيرها؛
3- أدوار وسائط التواصل الاجتماعي، وهي وسائط تمتلك قدرة رهيبة على التأثير، والتلاعب بالعقول وتسطيحها، دون نسيان دورها الإيجابي بلا جدال؛ حيث يجد المواطن نفسه مُستَعْبدًا بشكل طوعي من لدن امبريالية رقمية تتمثل في المنصات الكبرى التي تتحكم في العالم وتوجه اختياراته وحواسه وذوقه، باستثناء ما تعمل الصين على ابتكاره من منصات خاصة وإلى حد ما روسيا. ويلاحظ الجميع كيف أن هذه الوسائط تمارس تأثيرا سلبيا على ملكات الأطفال والشباب، يترتب عنه إعداما لشروط التفكير كالانتباه، والتركيز، والتذكر، وهي قدرات ضرورية لفعل التفكير كيفما كان نوعه ومستواه ومجاله؛
4- الانتقال الديموغرافي في العالم عموما، وفي المغرب كذلك؛ فحسب تقرير المندوبية السامية للتخطيط لسنة 2024، بلغت نسبة سكان المدن بالمغرب 64 في المئة، واتسع رأس الهرم السكاني، وضاقت قاعدته، مما يعني أن المغرب دخل في طور "عدم تجدد الأجيال"، وهذا خطر محدق بالمجتمع وبمستقبله. ولعل من تمظهرات هذا التحول الديموغرافي: تراجع التضامن الاجتماعي وتزايد التفردن؛ تراجع الثقة في المؤسسات؛ إضعاف الطبقة الوسطى، وسطوة الاعتبارات المادية.
لقد صرنا نعيش في سياق سائل، لا شيء مستقر فيه، ونعاني الهشاشة التي مست التفكير أيضا، مما يطرح إشكالية حاجة الفرد لإعادة بناء ذاته باستمرار في هذا الواقع المضطرب. وينضاف إلى ما سبق، ما يمارسه الذكاء الاصطناعي من خلخلة شمولية لقضايا المجتمع، والمعرفة، والتعلم، والرابط الاجتماعي، والقيم، والاقتصاد وغيرها... إذ يطرح أسئلة كبرى حول طرق اكتساب المعرفة والتعلم، وزعزعة مناهجه. وهذا يفرض علينا إعادة بناء فهم جديد لموقع المدرسة، ولأدوار الأستاذ، ولأساليب نقل المعرفة، والتساؤل عن كيفيات تعلم الطفل كيف يتعلم؟ وكيف يفكر؟ وكيف يُبادر؟ وكيف يشارك؟ وكيفية ضمان نقل المعرفة والقيم الجديدة بشكل ناجع ومستدام إلى الأطفال وإلى المتعلمين؟
وبناء على هذه المعاينات الأربع، تساءل الأستاذ أفاية عن الأجوبة التي يمكن أن تقدم بخصوصها، مؤكدا على أن العلاقة التربوية علاقة صعبة، مهما كان السياق الذي تتم فيه العملية التعلُّمية (شروط التعلم وظروفه). فهذه العملية في المغرب وكما في كثير من البلدان، تتميز بالهشاشة وأضحت تواجه تحديات كبرى قبل حدث غزو منصات الذكاء الاصطناعي؛ حيث غذت التكنولوجيا الرقمية توفر مختلف الأدوات للتعامل مع جميع القطاعات؛ بل ويبدو أننا سائرون في طريق التسليم بنوع من التدبير المفوض للتفكير، حيث صرنا نُفوِّض ذكاءنا لهذه التكنولوجيات الرقمية ولا سيما للذكاء الاصطناعي.
لكن ما المعنى الذي تكتسبه عملية التعلم عامة، وعملية تعلم التفكير بشكل خاص في هذه الحالة؟
لكي يتجاوز التعلم -الذي حين يحصل فعلا يؤدي إلى تغيير في المعارف والمواقف والسلوكات- مستوى التذكر والاستحضار لابد، كما هو معلوم، أن يُبنى على فهم واضح كي يبقى ممتدا في الزمان ولا يشوبه النسيان، ذلك أن عملية التعلم تعتمد بالأساس على العقل بوصفه القدرة على التمييز، والحكم، والمقارنة. ومسلسل التعلم يبدأ بانتقاء المعلومة، ويمر بهضمها، ثم بفهمها، وبصياغة مفهومية لها، وينتهي بضرورة إعطائها معناها الملائم. فهل تتم هذه المراحل التعلمية أم تظل مجتزأة؟ يتساءل أفاية.
إن تحقُّق ذلك يتطلب في نظره، تحفيز المتعلم على توظيف كل الملكات العقلية، بالانطلاق من التفكير المعتمد على الذات، باعتبار أن هذا الفعل لا يقتصر على المسائل المجردة وإنما يعبر عن نمط من الوجود والنظر إلى الإنسان والزمن والحياة، فيرتقي بذلك المتعلم إلى المستوى الذي يسعفه في تكوين تفكير "نقدي". وفي هذا السياق، تساءل أفاية عن مدى جاهزيتنا لتقبل النقد باعتباره مسؤولية فكرية حقيقية تتطلب جهدا وكفاحا لاكتساب مقوماته الحقيقية، ليلاحظ أن هذه الجاهزية ضعيفة لدينا، وتتميز بتدني القابلية الوجدانية لتقبلها بالمغرب.
وتتجلى تمظهرات هذا التدني، في نظره، في صعوبات تعلم اللغات، وفقر القاموس اللغوي لدى المتعلم المغربي، خاصة أن التقييم يركز على قياس مهارة الحفظ في الغالب، ذلك أن غنى القاموس يُمكِّن من اتساع عملية التفكير والتعلم، وما هو يعاكس ذلك يعدُّ في نظره إعدادا لشكل من أشكال الجهالة الجديدة، وإشاعة العنف والهشاشة، والاعتماد على الأجوبة الجاهزة، والقبول بما هو سهل، واللجوء إلى الغش.
وأكد المحاضر على أن إشكالية تعلُّم التفكير، اليوم، يمكن تلخيصها في:
1- عجز الأسر على تحفيز الأبناء على جدارة التفكير وتعلمه، حيث انهزمت الكثير من الأسر في هذا الشأن إلى درجة سقوطها في تشجيع أبنائها على الغش، فضاعت بذلك أخلاقيات الحث على بذل الجهد وعلى التفكير السليم، وهو ما نجم عنه ضعف كبير في تعلمات الطلبة المغاربة في اللغات والتواصل، والحساب، وحل المشكلات، حسب التقارير المنشورة كافة؛
2- مشكلة المدرسة والتباس الأدوار، حيث تضيع الطاقة بين أن يكون الأستاذ مُدرسًا أو يكون أستاذا مربيا، فإذا كان دوره الرئيسي يتمثل في نقل (transmission) المعرفة وتوجيه المتعلم إليها، فهذا الالتباس نتجت عنه معاناة حقيقية للمدرس وللإداري معا لأنهما أصبحا يواجهان تحديين اثنين: التحول الجذري لطرق ولوج المعلومة والمعرفة وسهولة الحصول عليها؛ واجتياح المظاهر الاجتماعية السلبية على فضاءات المدرسة بدل قيام هذه الأخيرة بمحاصرتها بنقل قيم الاجتهاد والتمدن والعمل والنجاح المستحق؛
3- مشكلة الرغبة في التعلم ومقاومته حيث إن هذا الجيل، في الغالب الأعم، مع مراعاة وجود من ما يزال يتشبت بالاجتهاد والمثابرة، تعلم التساهل ونشأ عليه، بل وغدا التشجيع على النجاح غير المستحق أمرا يُحتفى به في بعض المؤسسات التعليمية، ولا سيما الخاصة منها؛
4- تحدي الرقميات والذكاء الاصطناعي، حيث أضحت المعرفة مُشاعة وملكية عامة. إلا أنه أمام هذه الوضع الجديد يفترض من الجميع، ولا سيما المسؤولون عن قطاعات التربية والتعليم والتنشئة، مواجهة السؤال التالي: كيف يمكن وضع قواعد جديدة لاكتساب التعلُّمات وبلوغ المعرفة اعتمادا على الذات، وبذل المجهود، وبناء قيم تحرص على إرادة البحث والسؤال والتحليل؟
لا شك أن الأمر يتعلق بسؤال كبير ومقلق لكل المسؤولين السياسيين والتربويين والآباء علما أن ما نعاينه من ممارسات يكشف عما هو مضاد لما يتعين الأخذ به والحرص على الالتزام به.
واستحضر الدكتور أفاية في هذا الإطار الأسئلة الأربعة التي طرحها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، والتي ما تزال تحافظ على جذارتها وهي: ماذا يمكن أن أعرف (في كتابه "نقد العقل النظري")؟ وماذا يجب علي أن أفعل (في "نقد العقل العملي")؟ ما الذي يحق لي أن آمله؟ وما هو الإنسان؟ لكن أفاية أضاف سؤالا خامسا هو، كيف نحيا؟ أي كيف نحل المشكلات ونحيا بتجاوزها؟.
واعتبر أن عملية تعلُّم التفكير وتعليمه تبدأ، عموما، بما يلي:
- اكتساب مهارات التفكير بشكل متدرج يقدم عناصر تسعف بالحصول على اللغات والتعلمات الأساسية، وبنقد الأوهام، وبالتبرم من الأحكام المسبقة، وكشف الإيديولوجيات. لأن هذه الأخيرة تقترح على من يأخذ بها أجوبة جاهزة ونمطا كثيرا ما يحشر المؤمن بها نفسه وعقله ووجدانه في بنية ذهنية منغلقة. كما هو الحال مع ما أسماه، مؤخرا، منظرو إيديولوجية "الأنوار المظلمة" في أمريكا اليوم، التي وضعت توجهات جديدة لليمين في أمريكا، وأثرت على نطاق واسع في مهندسي المنصات الرقمية في "السيليكون فالي"، بهدف خلق مجتمع جديد مضاد للحرية، والمساواة، والقضاء العادل...؛
- تعلم مبادئ تفكير تفترض عملية كفاح مسترسلة سلاحها العقل، وأعداؤها البلاهة والتفاهة والسطحية؛
- الحذر من تداعيات الذكاء الاصطناعي، الذي أصبح يقوم وبسرعة مذهلة، حسب الدراسات الأخيرة في أمريكا، بتخريب الذكاء والحياة الخاصة، وتفكيك الروابط، وتعميق الفوارق، وخلخلة مناهج التعلم؛ أي أننا مطالبون، وبكثير من التواضع ولكن بالجدية الضرورية، بمواجهة السؤال التالي: كيف يمكننا بلورة فهم نقدي للذكاء الاصطناعي؟ وكيف نُدرِّسه؟، وعلينا أن نفكر وجوبا في تدريسه كما فعلت الصين التي قررت ذلك ابتداء من التعليم الابتدائي، علما أنها تمتلك منصاتها الخاصة ولها ما يؤهلها للقيام به؛
- مقاومة الغش والكسل، مسترشدين في ذلك ببعض الجامعات المتقدمة في العالم التي أصبحت تمنع التوظيف العشوائي للذكاء الاصطناعي في العديد من فضاءات التعلم والتقييم؛
- التفكير الاستعجالي في تأطير استعمالات الذكاء الاصطناعي ووضع قواعد ضبط لها للحد من اجتياحه لأنه غير بريء تماما، والتشجيع على التمسك بالذكاء الجماعي؛
- الوفاء للقيم البانية، بتقوية الاتجاه الساعي إلى المصلحة العامة للمجتمع، ضد الفردنة الضيقة، وإلى دعم المدرسة العمومية، والحد من مخاطر الخوصصة على النسيج المجتمعي والتماسك الوطني؛
- تعزيز القيم التي تحفز على الاحتكام إلى العقل، وإلى التضامن والمحبة؛
وأنهى الدكتور محمد نورالدين أفاية محاضرته بنص شعري للشاعر الفلسطيني محمود درويش بعنوان "حالة حصار"، مشيرا إلى أنه على الرغم مما يكشفه الواقع من مشكلات وعراقيل وفساد، فإنه علينا الحرص على التشبت "بالاستعداد للحيوية والتجدد، والتأكيد على الحاجة إلى الإبداع"، وتربية الأمل بالتفكير المناسب، والجدية اللازمة. حيث يقول درويش:
"هُنا،
عند مُنْحَدَرات التِّلال،
أمام الغروبِ وفُوَّهَة الوقتِ،
قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ،
نفعلُ ما يفعلُ السجَناءُ،
وما يفعل العاطلون عن العمل:
نُرَبِّي الأملْ".
وبعد المحاضرة فتح المجال للمناقشة، حيث أنصت المحاضر لتدخلات الحضور؛ وتفاعل بشكل مستفيض مع أسئلتهم، وعقب عليها.