نور الدين الطويليع: بلاغة الجمهور - حين تتحول مدرجات ملعب كروي إلى مجلس عزاء في شهداء أسفي

نور الدين الطويليع: بلاغة الجمهور - حين تتحول مدرجات ملعب كروي إلى مجلس عزاء في شهداء أسفي نور الدين الطويليع
- قراءة في لافتة جماهيرية متضامنة مع ضحايا فيضان مدينة آسفي
 
"إن الإنسان كائن بلاغي، يوظف طاقاته اللغوية وغير اللغوية من إشارات وعلامات ورموز ليحقق وجوده، ويتواصل مع محيطه، ويستخدم آليات وتقنيات تساعده في عملية التواصل والتأثير والتأثر"
ماجد قائد قاسم ـــ نظرية بلاغة الجمهور عند عماد عبد اللطيف وعلاقتها بالسيمياء، ص 404
ترتبط بلاغة الجمهور باليومي، وتحيل على ما يعيشه الناس من هموم ومشاغل في مختلف المجالات الدينية والتربوية والاجتماعية والسياسية والرياضية، وبالنسبة إلى الباحث هي "مستوى من مستويات التحليل البلاغي، يختص بدراسة استجابة الجمهور للخطابات العمومية" ، وما يمارسه من تأثير وإقناع وممانعة، وفي المجال الرياضي"تدرس بلاغة الجمهور، على نحو التحديد، الاستجابات الخطابية لجمهور كرة القدم" ، وفي هذا السياق تأتي قراءتنا لإحدى الاستجابات الخطابية لجانب من الجمهور المغربي في ملعب الشيخ خليفة بدولة قطر في المباراة التي جمعت المنتخبين المغربي والإماراتي بمناسبة نصف نهائي البطولة العربية.  نسلط الضوء على علامة جمعت بين اللغوي وغير اللغوي، تمثلت في لافتة رفعها هذا الجمهور، تجاوزت رقعة الملعب، وانخرطت في صلب قضية هزت المجتمع المغربي، ويتعلق الأمر بحدث مأساوي عرفته مدينة آسفي التي فقدت عشرات المواطنين بسبب فيضانات واد الشعبة، ونتساءل بهذا الصدد: 
ما الرسائل التي تحملها هذه الاستجابة؟ 
كيف ساهمت هذه الاستجابة في تشكيل هوية الجمهور الذي صدرت عنه؟
ما القوة الإنجازية لهذه الاستجابة؟
تمثل هذه اللافتة خطابًا جماهيريًا مكثفًا، يتجاوز حدود التشجيع الرياضي إلى التضامن الرمزي والتعبير الوجداني الجماعي الحابل بالدلالات والرسائل، ويخرق حدود المكان والزمان ليطوي المسافات ويسافر بعيدا، ويقدم المكان الخاص الذي تنجذب إليه الذات، وهنا يكتسب المكان رمزية خاصة، ف "المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا، ذا أبعاد هندسية وحسب" ، وإنما سيتجاوز الأمرُ الاستدعاءَ إلى التماهي والاندماج.  
 
1 ـــ بلاغة التقديم والتأخير وخدمتها لسياق المواساة الجماهيرية
يثير انتباهنا منذ الوهلة الأولى أسلوب التقديم والتأخير الذي يرتبط بمقصدية واضحة، تجعل آسفي محور الخطاب، ويكشف عن منطلقات بلاغية تروم الجذب والتأثير، يقول عبد القاهر الجرجاني بهذا الصدد: "ولا تزال ترى شعرا يروقك مَسْمَعُهُ، ويَلْطُفُ لديك مَوْقِعُهُ، ثن تنظر فتجد سببَ أن راقك ولَطُفَ عندك، أن قُدِّمَ فيه شيءٌ، وحُوِّلَ اللفظُ عن مكانٍ إلى مكان" ،  وهذه الفائدة لا تخلو منها الجملة الأولى في اللافتة، فقد تقدم الخبر شبه الجملة (لك) على المبتدإ (اسم الجلالة الله)، وليس هذا عملا اعتباطيا، فهو يفيد نوعا من الاختصاص والقصر، (وهذا بخلاف "الله لك")، ويحمل دلالات بلاغية وحجاجية، تكتسب معناها انطلاقا من السياق الوجداني للمأساة، فما يُقدَّمُ لفظيا يُقَدَّمُ شعوريا... والمخاطَب يحظى ها هنا بالأولوية والاهتمام، وهو موضع مواساة جماهيرية، لم تنشغل عنه الجماهير بأجواء المباراة وجاذبيتها، وظل يحظى طيلة أطوارها بالحضور الوجداني والتعاطف القلبي، وهذا يعمق التماهي الوجداني لدى الجمهور.
 
2ــ العبارة الأولى  والدلالة على الاحتجاج الخفي
تتضمن عبارة "لك الله يا آسفي" نوعا من الاحتجاج الخفي، كما لو أن الجماهير تريد أن تقول: "لكَ وحدك اللهُ سندًا ونصيرًا يا آسفي"، وفي هذا توجيه حجاجي يروم أصحابه الإشارة إلى العجز البشري وقصور يد الفاعل الدنيوي، وتومئ إلى التخلف المؤسسي عن الفعل والحماية، وتُسَلِّمُ بالقدرة الإلهية، وتمنحها وحدها القدرة على العناية والاحتضان، وكل هذا يختزل الإحساس بالمرارة وخيبة الأمل واستنفاذ حلول الأرض لدى جماهير آلَمَهَا ما حدث، ورأت في الفاجعة تقصيرا إنسانيا أودى بحياة العشرات، وخَلَّفَ خسائر مادية كبيرة، وهذا ما يمكن أن نَسِمَهُ ب "الإدانة بالتجاوز"، وهي إدانة تُفَعِّلُ بلاغةَ الغياب، وتحتج احتجاجا رمزيا على الفاعل بالإسقاط والتجاوز، وهي أولا وأخيرا تُحْرِجُ الصمتَ دون أن تصطدم به.
 
3 ـــ بلاغة المفارقة بين القرب والبعد
توظيف ضمير المخاطَب لا الغائب في هذا السياق يولد نزعة إنسانية، تُلْبِسُ المكان اللبوس الإنساني، وتجعل المنسوب العاطفي للخطاب مرتفعا، وتزداد العلاقة بين الطرفين متانة بصيغة "لكِ الله" التي تُقَرِّبُ المسافةَ بين المرسل والمخاطَب، وتقلص ما بينهما من بُعْدٍ جغرافي، إلى الحد الذي يمنح الجمهورَ صبغة المشاركة الوجدانية.
هذا القرب يُوازيه استدعاء حرف النداء "يا" الذي يُوَظَّفُ لنداء البعيد، مما يضعنا في صلب المفارقة بين القرب والبعد، فآسفي التي حظيت بالتقديم والخطاب، اختير لها حرف نداء للبعيد، وتجد هذه المفارقة مُسَوِّغاتها في ثنانية القرب العاطفي والبعد الجغرافي، فهي بعيدة عن الملعب بآلاف الكيلومترات، لكنها قريبة من القلب، وفي هذا تسليم بالعجز عن الفعل وإخراج للذات الجماهيرية من دائرة "الخوالف"، وإثبات للحضور المعنوي والقرب العاطفي في الوقت نفسه، فبُعد المسافة، وإن ألغى مسألة المشاركة في الإنقاذ والنجدة، لم يُلْغِ التَهَمُّمَ بالمدينة المنكوبة وسكانها المفجوعين.  
 
4 ــ بلاغة الجمهور والاستجابة العرفية
تعد عبارة "الله يرحم لي مات" من العبارات المسكوكة في المخيال الشعبي المغربي، تُستعمل عرفيًا في سياقات التعزية ومواساة أهل الفقيد، وقد استقر تداولها بوصفها صيغة جاهزة تؤدي وظيفة وجدانية محددة، قوامها استدعاء الرحمة الإلهية وتخفيف وطأة الفقد. 
 توظيف هذه العبارة داخل لافتة جماهيرية وفي سياق كارثة طبيعية، لا يُبقيها في حدود الاستعمال العرفي الضيق، بل ينقلها من خطاب المواساة الفردية إلى خطاب التعاطف الجمعي، ويُحَوِّلُ المكان المخصص للفرجة إلى مجلس عزاء، يلغي كل المسافات ويتوجه إلى أهل المدينة بمشاعر المواساة، وينشئ توازنا بلاغيا بين مخاطبة المكان (آسفي) واستحضار الضحايا والإحضار الوجداني لأهلهم، ومن شأن هذا الخطاب أن يخفف الوطء عنهم، ويُشعرهم أن مصابهم ليس موقوفا عليهم وحدهم، وأن مغاربة الداخل والخارج يشاركونهم الحزن والألم حتى في أكثر اللحظات التي يمكن أن تشغل الإنسان عن التفكير في المأساة. 
 
تكشف لافتة "لك الله يا آسفي – الله يرحم لي مات" عن اشتغال بلاغة الجمهور على تحويل الفضاء الرياضي إلى فضاء للتضامن الرمزي مع مدينة تُخاطَب ككائن جريح بأسلوب يُوَظَّفُ فيه التضفير البلاغي الذي يجمع بين الرسالة السياسية والتعزية والتضامن، وهذا ما حَوَّلَ الجمهورَ من مجرد مشجّع رياضي إلى جماعة متضامنة أخلاقيًا، فاعلة خطابيا.