في أحد نقاشات حوارات الأطلسي Atlantic dialogues ، التي نظمها مركز التفكير Policy Center for the New South، على مدى ثلاثة أيام بالرباط بحضور عدد من رؤساء دول وحكومات ووزراء خارجية سابقين وباحثين وفاعلين .طُرح سؤال بدا بسيطًا في صياغته، ثقيلًا في دلالاته:
هل ما تزال الديمقراطية قادرة على أن تكون فعّالة في عالم ما بعد الثقة؟
سؤال لا يحتاج إلى كثير من التنظير حتى ندرك وجاهته. فالعالم من حولنا يمتلئ بصناديق الاقتراع، لكنه يفتقر، إلى شعور الاطمئنان. نعم ننتخب،لكننا لا نثق. نشارك أحيانًا، لكننا نشكّ دائمًا. وكأن الديمقراطية ما تزال قائمة في الشكل فقط ،بينما يتآكل مضمونها بهدوء، ودون ضجيج.
في دولٍ عريقة في تجربتها الديمقراطية، صار العزوف عن السياسة تعبيرًا عن الغضب الصامت. فالمواطن لا يحتج دائمًا، لكنه ينسحب. يكتفي بالمراقبة من بعيد، أو بالتهكم، أو بالصمت. وفي دول أخرى، ما تزال في طور البناء، يتسرّب شعور أكثر قسوة: لماذا نثق في نموذج لا يغيّر حياتنا؟ لماذا نمنح الشرعية لمن لا يمنحنا الإحساس بالعدالة أو الأمل؟
ربما المشكلة ليست في الديمقراطية ذاتها، بل في المسافة التي اتسعت بينها وبين الناس. حين تتحول السياسة إلى لغة تقنية، وحين تصبح المؤسسات عالمًا مغلقًا على نفسه، تفقد الديمقراطية طعمها.و لا تعود فعل مشاركة، بل إجراءً باردًا وممارسة روتينية تُدار بالأرقام والخطابات الجاهزة.
خلال النقاش، كان واضحًا أن استعادة الثقة لا تمر عبر الخطب الكبيرة ولا عبر الشعارات الفضفاضة، بل عبر تفاصيل صغيرة، لكنها حاسمة لان الشفافية سلوك والمحاسبة ممارسة يومية وليست وعود مؤجلة . فالمواطن لا يطلب المعجزات، لكنه يريد أن يشعر بأن صوته مسموع، وأن الخطأ يُحاسَب، وأن القواعد تُطبَّق على الجميع دون استثناء.
ومع ذلك فحتى هذا لا يكفي. فالديمقراطية التي لا تُشرك الناس خارج لحظة التصويت، تظل ديمقراطية ناقصة. فالمشاركة ليست ترفًا، ولا زينة إضافية للنظام السياسي، بل شرط حياة. فحين يُستدعى المواطن إلى النقاش، وإلى الاقتراح، وإلى التقييم، يشعر أن السياسة شأنه، لا شأن “الآخرين”. عندها فقط، تبدأ الثقة في العودة، ببطء، وبلا ضجيج.
ولعل ما يلفت الانتباه أن عددا من المداخلات استحضرت بقوة تجارب من الجنوب العالمي، ومنها إفريقيا، لا بوصفها نماذج جاهزة أو قصص نجاح مكتملة، بل كمحاولات للبحث عن صيغ أقرب إلى الواقع. حيث يصبح النقاش الديمقراطي مرتبطًا بالخبز، وبالمدرسة، وبالصحة، وبالكرامة اليومية. وحين تتحسن هذه الأشياء، تتحسن معها الثقة، حتى دون خطابات رنّانة.
وفي السياق نفسه، طُرحت أفكار ترى في التعاون والانفتاح الإقليمي مدخلًا لتعزيز الاستقرار وبناء الشرعية، مثل المقاربات التي تنظر إلى الفضاء الأطلسي الإفريقي باعتباره مجالًا للتكامل والتنمية المشتركة. ( المبادرة الملكية )ليس لأن الجغرافيا تحلّ كل شيء، بل لأن السياسة، حين تنفتح على الأفق، تستعيد بعض معناها، وتخرج من ضيق الحسابات اليومية.
في النهاية، فالديمقراطية لا تموت فجأة، ولا تُهزم بضربة واحدة. بل تذبل حين لا تجد من يثق بها. وحين تفقد الثقة، تفقد قدرتها على الإقناع، حتى لو بقيت قائمة في النصوص والدساتير.
ربما نحن اليوم في حاجة إلى ديمقراطية أقل ضجيجًا، وأكثر إنصاتًا. أقل وعودًا، وأكثر وفاءً. ديمقراطية تعود إلى أصلها البسيط حيث يشعر الإنسان بأن صوته له وزن، وأن وجوده ليس تفصيلًا عابرًا في لعبة أكبر منه.
ذلك، في نظري، هو التحدي الحقيقي في عالم ما بعد الثقة…