من تأملات مشروع "فطرة"
الأمومة ليست دورا شخصيا تعيشه امرأة داخل بيتها، بل إحدى البنى التي يقوم عليها المجتمع كله. هي الحدث الهادئ الذي تتفرع منه المدرسة، والعمل، والصحة، والاقتصاد، وكل ما يتصل باستمرار الحياة. ومع ذلك، تبقى الأمومة -حتى اليوم- من أقل الأدوار تنظيما داخل المنظومة الاجتماعية.
تبدأ الأمومة اليوم في ظروف لا يتحقق فيها التوازن المطلوب، داخل دائرة دعم غير مستقرة. فبعد عطلة الأمومة القصيرة، تعود كثير من النساء سريعا إلى العمل، فتتوزع متطلبات رعاية الطفل بين أطراف متعددة داخل الأسرة وخارجها، بينما تتشابك على كتف الأم مهام يومية متعددة؛ جسد حاضر في مكان، وذهن يعمل في مكان آخر يلاحق التفاصيل الصغيرة دون توقف.
وعند هذه النقطة يبرز أحد المفاهيم التي باتت محورا في الأبحاث الحديثة حول توازن الحياة الأسرية والعمل: "العبء الذهني" (Mental Load). وهو جهد ذهني دائم، يعمل في الخلفية باستمرار دون أن يُرى، لكنه يترك أثرا حقيقيا على طاقة الأم ويؤثر مباشرة على قابليتها لتكرار التجربة.
فكثير من الأزواج اليوم يتجهون نحو طفل واحد أو اكتفاء مبكر، لا لأن الرغبة غابت، بل لأن التجربة فقدت شروط تكرارها. ومع انتشار هذا النمط، يتحول الاختيار الفردي إلى ظاهرة مجتمعية تُغير شكل الهرم السكاني، وتؤثر في سوق العمل، والاقتصاد، وأنظمة الرعاية. ما يحدث داخل بيت واحد ينعكس على صورة وطن بأكمله.
والمغرب بدوره يعيش هذا التحول: انخفاض الخصوبة، ارتفاع الأعمار، تقلص حجم الأسرة… كلها مؤشرات تخبرنا أن التجربة لم تعد قابلة للاستمرار بالشكل الذي كان متاحا سابقا. وهذه ليست أزمة نسائية؛ إنها إشارة إلى خلل في البيئة التي تُعاش فيها الأمومة.
وفي ظل هذا الواقع، تبرز اليوم مطالب تتجه نحو تقليص ساعات عمل المرأة باعتبار ذلك حلا لتخفيف الضغط عن البيوت. غير أن هذا الطرح -رغم حسن نيته- لا يعالج الإشكال من جذره، بل ينقل الضغط من البيت إلى المؤسسة، ويؤثر على وتيرة العمل وعلى المصالح المرتبطة به. فالمشكلة ليست في عدد الساعات، ولا في قدرة المرأة على الإنجاز، بل في طبيعة الوظائف ذاتها التي صُممت تاريخيا وفق نموذج رجل متفرغ لا يحمل أدوارا موازية، ثم فُرضت بالشكل نفسه على امرأة تؤدي داخل البيت دورا مختلفا تماما.
لهذا يبدو الحل الواقعي ليس في اقتطاع ساعات العمل، وهو حل قد يربك المؤسسات أكثر مما يساند الأسر، بل في إعادة تعريف مسار عمل المرأة داخل وظائف قابلة للمرونة البنيوية: وظائف يُعاد تصميمها بحيث تتسع لإيقاع الأسرة دون أن تمسّ بجودة الأداء أو بمصالح العمل. إنها مرونة في طبيعة المهنة، لا في التزام المهنة، تحفظ الإنتاجية وتضمن توازن البيت في آن واحد.
إعادة الاعتبار للأمومة ليست دعوة عاطفية، بل مشروعا اجتماعيا يحتاج إلى رؤية مشتركة:
ثقافة ترى في رعاية الطفل استثمارا مجتمعيا لا عبئا فرديا، ووعيٌ مجتمعي يساند النساء في اختيار مسارات مهنية أكثر مرونة وأقل استنزافا،
وسوقُ عمل يبتكر طرقا أذكى في تنظيم الوظائف وهندسة مهامها دون المساس بجوهرها، وسياسات عمومية تُعزز هذا التوازن عبر إنشاء مؤسسات للرعاية المبكرة في محيط مراكز الأنشطة الاقتصادية أو داخل المؤسسات نفسها، وتشجيع القطاع الخاص، عبر امتيازات واضحة، على تقديم صيغ دعم للأمهات العاملات.
إنها منظومة تتكامل فيها أدوار المجتمع والدولة والمؤسسة،لتجد فيها الأمومة بيئة تنمو دون أن تُدفع إلى حدود الطاقة البشرية.
فالأمومة ليست محطة عابرة؛ إنها الجذر الذي تنمو فوقه بنية المجتمع، وكل إصلاح يبدأ من حماية هذا الجذر قبل أي خطوة أخرى.