سعيد التمسماني: المغرب يعيد صياغة معادلة الماء… من إدارة الندرة إلى بناء سيادة مائية مستدامة

سعيد التمسماني: المغرب يعيد صياغة معادلة الماء… من إدارة الندرة إلى بناء سيادة مائية مستدامة سعيد التمسماني
في لحظة عالمية تتكاثف فيها التحذيرات بشأن مستقبل المياه وتشتد فيها تداعيات التغير المناخي، يقدم المغرب من مراكش خطابًا جديدًا ومختلفًا حول كيفية بناء أمنه المائي. فخلال المؤتمر العالمي للمياه، رسم معالي وزير التجهيز والماء نزار بركة معالم تحول استراتيجي غير مسبوق في تدبير هذه الثروة الحيوية، تحولٌ لا يقتصر على توسيع البنيات بل يشمل إعادة صياغة فلسفة كاملة تحكم علاقة الدولة والمجتمع بالماء.
 
هندسة جديدة للسياسة المائية: رؤية تتجاوز “الاستعجال” نحو الاستباق
على مدى عقود، اعتمد المغرب سياسة قائمة على بناء السدود ومراكمة البنيات كأساس للأمن المائي. غير أن التحولات المناخية العميقة فرضت الانتقال إلى نموذج مختلف، يقوم على الاستشراف وتدبير المخاطر بدل الاكتفاء بردّ الفعل عند كل أزمة جفاف.
 
في هذا السياق، يبرز البرنامج الوطني للماء باعتباره الإطار الجامع لإعادة هيكلة السياسة المائية. إنه ليس مخططًا تقنيًا بقدر ما هو مشروع سيادي شامل يُمكّن المغرب من التحرك في بيئة مناخية مضطربة عبر تنويع مصادر الماء، وتوسيع التحلية، واستثمار تقنيات إعادة استعمال المياه في الزراعة والصناعة والحياة الحضرية.
 
من الموارد الطبيعية إلى الموارد المصنّعة: ثورة مغربية في إنتاج الماء
لأول مرة في تاريخ البلاد، لم يعد الماء موردًا يُنتظر هطوله من السماء أو يتجمع خلف السدود، بل أصبح موردًا يجري إنتاجه وصناعته.
التحلية لم تعد خيارًا محدودًا بالسواحل، بل تحولت إلى ركيزة استراتيجية. ومع إعادة استعمال المياه العادمة عبر تكنولوجيات متقدمة، يعاد رسم الخريطة المائية الوطنية على أسس جديدة تمنح المغرب مرونة غير مسبوقة في مواجهة الجفاف الشديد الذي تتوقعه النماذج المناخية للسنوات المقبلة.
 
المقاربة المندمجة: حين يصبح الماء محور الصحة والغذاء والطاقة
خطاب نزار بركة يحمل تحولًا مفاهيميًا مهمًا: الماء لم يعد مجرد قطاع عمومي، بل أصبح مفصلًا استراتيجيًا داخل منظومة مترابطة تشمل الصحة والطاقة والغذاء والتمركز السكاني.
هذه النظرة المنسجمة تعكس فهماً عميقاً بأن أي اختلال في السياسات المائية يمكن أن يتحول إلى سلسلة أزمات متتالية تمس الاستقرار الاجتماعي والأمن الغذائي ونسيج التنمية برمّته.
 
عدالة مائية… لتصحيح اختلالات الماضي
من أبرز ملامح هذا التحول الإصرار على العدالة المائية باعتبارها مدخلاً لضمان استدامة الإصلاحات.
التفاوتات بين المدن والقرى، وبين الجهات الساحلية والداخلية، لم تعد مقبولة في زمن ندرة الموارد. ولذلك، يركز البرنامج الوطني على توجيه الاستثمارات نحو المناطق الهشة، وتعميم الولوج إلى الماء الشروب، وربط الأمن المائي بالإنصاف الاجتماعي والمجالي.
بهذه المقاربة، لا يعود الماء مجرد خدمة عمومية، بل يتحول إلى حق تنموي يرتبط بكرامة المواطن وجودة حياته.
 
تخطيط استباقي على مدى عقد كامل: من إدارة المخاطر إلى امتلاك القرار
من مراكش، أوضح الوزير أن المغرب يشتغل وفق سيناريوهات دقيقة للعشر سنوات المقبلة، بما يشمل توقعات الجفاف، وحجم الموارد المتاحة، وقدرة البنيات على الصمود.
هذا الانتقال نحو التخطيط بالسيناريوهات يضع المغرب في موقع الدول الرائدة التي تبني سيادتها المائية على أساس العلم والبيانات، لا على تكرار أنماط الماضي.
 
كما أن الاعتماد المتزايد على الموارد غير التقليدية يعني أن خريطة الأمن المائي ستشهد تحولًا جذريًا خلال العقد القادم، يُعيد توزيع مراكز الإنتاج والاستهلاك وفق معايير جديدة للفعالية والاستدامة.
 
إشراك المواطن: لأن السياسات الكبرى لا تكتمل دون وعي جماعي
أعاد نزار بركة في خاتمة كلمته التأكيد على أن الماء ثروة مشتركة وأن نجاح هذه التحولات لن يتحقق إلا عبر سلوك جديد في الاستهلاك.
ذلك أن الأمن المائي لا يصنعه التخطيط فقط، بل تصنعه أيضًا ثقافة يومية واعية تُدرك أن الحفاظ على الماء ليس عملاً ظرفيًا، بل هو التزام وطني مستمر.
 
خاتمة: المغرب يصوغ نموذجًا مائيًا جديدًا… عنوانه السيادة والاستدامة
ما يقدمه المغرب اليوم هو تحول جذري يتجاوز البنيات إلى إعادة تعريف علاقة الدولة بالماء، وبناء نموذج مائي حديث يستند إلى الابتكار، العدالة، والسيادة البيئية.
من مراكش، يتضح أن المملكة لم تعد تكتفي بالتأقلم مع ندرة المياه، بل بدأت في تشكيل مستقبلها المائي بيديها، عبر رؤية تجعل من كل قطرة ماء استثمارًا في الاستقرار والتنمية والتوازن الاجتماعي.
 
بهذا الاتجاه، يدخل المغرب مرحلة جديدة تُرسّخ مكانته كإحدى الدول الصاعدة في صناعة القرار المائي الدولي، وتمنح مواطنيه ضمانات أقوى لمستقبل آمن ومستدام.