منير لكماني: هندسة العلاقة ومسار العودة الى الأصل

منير لكماني: هندسة العلاقة ومسار العودة الى الأصل منير لكماني
تتغير ملامح العلاقة الإنسانية كلما اختل ميزان الفطرة بين الرجل والمرأة. فالعلاقة التي صاغتها الحكمة منذ البدايات لم تكن ساحة صراع ولا ميدانا لتبادل الأدوار بالقوة، بل بناء متناسق يستمد قوته من اختلاف طبيعي لا يلغي أحدا ولا ينتقص من أحد. وعندما يبتعد الإنسان عن هذا التوازن، يتسرب القلق الى داخله، وتضيع منه بوصلة السكينة التي نشأ عليها. إن ما نراه اليوم ليس مجرد تحول اجتماعي، بل انحراف هادئ عن أصل راسخ، ومحاولة لإعادة تشكيل الأدوار بطريقة لا تثبتها التجربة ولا تؤيدها الطبيعة العميقة للإنسان.
 
ميزان الفطرة
الفطرة ليست قالبا مصمتا ولا نصا جامدا، بل منظومة دقيقة تهدي المخلوقات الى أدوارها بلا تكلّف. كل شيء في الطبيعة يعرف مكانه ويسير نحوه بثبات. وحده الإنسان عندما يتخلى عن فطرته، ويستبدلها بسلوك مصطنع، يربك نفسه ويضيع عنه طريق الطمأنينة. العلاقة بين الرجل والمرأة واحدة من تلك المنظومات؛ علاقة تكامل، لا منافسة فيها على مركز، ولا صراع على سلطة، بل توزيع طبيعي للأدوار يكمل فيه كل طرف الآخر.
 
طبيعة القيادة والحنان
الرجل في أصله مهيأ لأن يكون قائما ومسؤولا، لا متسلطا. والقوامة هنا معنى للرعاية والعطف، لا معنى للامتلاك. إنه دور يظهر في الحماية قبل القوة، وفي العطف قبل الصرامة. والمرأة في حقيقتها تكتمل حين تجد هذا الاحتواء، لا لأنها ضعيفة، بل لأن رقتها تزدهر في مساحة آمنة تشعر فيها بأنها محل عناية لا عبء. العلاقة بينهما علاقة كل وجزء، يتولى فيها الكل مهمة القيادة، ويتبع الجزء لأنه يستند اليه، فيكتمل البناء بهما معا.
 
اضطراب الأدوار
عندما تضطر المرأة الى حمل كل الأعباء، قد تنجح في ذلك، لكنها لا تجد السعادة. تلبس شخصية ليست شخصيتها، وتؤدي دورين في الوقت نفسه. وحين ينسحب الرجل من مكانه الطبيعي، يفقد شيئا من روحه، حتى لو ظن أنه يكسب حرية أوسع. في الحالتين يسرى الاضطراب داخل النفس قبل أن يظهر في البيت، ويخفت دفء العلاقة مهما حاول الطرفان تعويضه.
 
جوع الأنوثة وظمأ الرجولة
الرجل حين يقدم لامرأته التفاتة صادقة، أو حماية بسيطة، أو عناية لا قيمة مادية لها، يوقظ فيها شعورا لا يعوضه مال ولا استقلال. والمرأة حين تمنح زوجها مساحة القيادة العاقلة، وتدعوه الى الحضور لا السيطرة، ترد اليه توازنه الداخلي، وتجعله قادرا على أن يكون سندا كما ينبغي. فحاجتهما المتبادلة ليست حاجة مادية، بل حاجة وجودية تعيد لكل منهما معناه.
 
عودة الى الأصل
ما نشهده اليوم نتيجة ابتعاد طويل عن الجذور. المشكلة ليست قوة النساء ولا ضعف الرجال، بل اختلاط في الأدوار ومحاولة نزع الخصوصية عن كل جنس. الأنوثة ليست قيدا، والرجولة ليست سيفا، بل جوهران يحفظان للتجربة الإنسانية اتزانها، وللعلاقة بين الطرفين معناها الحقيقي.
 
منعطف لا يقبل التجاهل
يبقى السؤال الأعمق: كيف نعود الى انسجام الفطرة دون أن نعود الى الوراء؟ وكيف نستعيد معنى الأدوار من غير أن نحبسها في قوالب جامدة؟ وهل يمكن أن ينهض مجتمع ينفصل فيه كل طرف عن طبيعته؟ إن الطريق نحو علاقة سوية يبدأ من الاعتراف بأن الاختلاف نعمة تحفظ التوازن، وأن العودة الى الأصل ليست تراجعا، بل استعادة لنقاء ضاع وسط ضجيج التجارب المتقلبة.