كنتُ أظنّ أنني اخترتُ مسارَ السياسة دفاعًا عن القيم، ومساهمةً في بناء الوطن، ثم اكتشفتُ متأخرًا أن السياسة لا تشبه الحلم الذي سكنني ذات يقين؛ ليست لعبة من قرأ أكثر من كتاب، بل من راكم أكثر من حساب..
كم كنتُ واهِمًا حين صدّقتُ أن الفعل السياسي أداة للتغيير..
ربما كنتُ غيرَ محظوظ حين جئتُ في زمنٍ تُصنَّف فيه أسوأُ حكومة، زمنٍ انقلبت فيه السياسة إلى نخاسة، وانقلب فيه البرلماني من رقيبٍ على الحكومة إلى مصفّق لها، وصار دورُ بعضهم عزفًا نشازًا داخل غرفةٍ كان يُفترض أن تكون فضاءً للنقاش لا مسرحًا للضجيج..
ما وقع يوم الاثنين الماضي عمَّق الجراح المفتوحة لأزمة السياسة في المغرب، ودفعنا إلى مشهدٍ سورياليّ يعكس انحدار النقاش بين سلطتين حدّد الدستور حدودهما بدقة..
للبرلمان، كما للـ”جامعة” و”دار الأوبرا”، قدسيةٌ في الهيئة كما في القول، وحين تنفلت لغةُ الشارع إلى حيث هذه القدسية، فاعلم أننا أمام كسرٍ خفيّ في النسق العام الذي يشدّ أوصال هذه العلاقة..
مؤسف أن يضيق صدرُ مسؤولٍ حكومي بسؤال، مهما كان سياقه؛ فهو هناك ليُجيب لا ليُنقّب عن النوايا..
في النهاية، هو ليس عرّافًا، ولا البرلماني محرّضًا ولا ثوريًّا..
أسئلة البرلمان روتينية، مُعدّة سلفًا، يعرفها الوزير كما يعرفها النائب، ومدة التدخل لا تمنحك حتى رفاهية استكمال فكرة، ففي النهاية يبقى ضوء الأحمر أطول عمرًا من سؤالٍ يُقال تحت القبة..
هذا خللٌ آخر، وقضية أكبر من كل هذا، لا يدرك ثقلها إلا من يجلس كل أسبوع ليستمع إلى أغنية مملة تعيد نفسها بلا روح..
للأسف، لا تقرأ النخب السياسية سياق المرحلة، ونحن أمام خطابٍ لا يزال يرنّ في الآذان..
ما قبل 31 أكتوبر وما بعده، سياق الحكم الذاتي والقضية الوطنية… وما شاهدناه مساء الاثنين كان بعيدًا، بعيدًا جدًا عن كل هذا.
لا أفهم كيف يزعج سؤالُ وزير، ولا كيف يُشعل رئيسُ الجلسة الموقف، فينقل حربًا افتراضية من الشاشات إلى الواقع، حتى ولو كان هذا الواقع هو البرلمان وعلى المباشر..
أيّ صورة نُصدّرها لهذا المواطن الذي نريده غدًا مصوّتًا؟ ونحن نخشى أن يأتي يوم لا يذهب فيه أحد إلى صناديق الاقتراع..
كنتُ واهِمًا حين ظننتُ أن للنقاش سقفًا أخلاقيًّا لا يُمسّ، فإذا بي أفاجأ بلغةٍ بذيئة تتسرّب إلى الداخل، فيتحوّل الحوار إلى عراك..
في البرلمان نُتّهم أننا فاسدون، وأن أغلبنا يلهث خلف الصفقات والمصالح، وهو واقع قائم للأسف لا ننكره، ولكن دون تعميم فَجّ.. وفي الجامعة أيضًا نتّهم أننا نبيع كل شيء، ونحتاج إلى رقيب وقانون وتوقيت مُيسَّر حسب قانون الوزير..
فأين، يا ترى، أمضي؟ والتهم تطاردني هنا وهناك، في السياسة كما في الجامعة..
أحزنني ما وقع في البرلمان، لأنه صورة عارية عن الانحدار الأخلاقي وتراجع منسوب النقاش العمومي..
وأحزنني أكثر أن أرى دموعًا في عين زميلٍ أحسَّ بالإهانة..
لا أحب الدموع في عيون أيّ كان،
خصوصًا إذا كانت دموع جراحٍ سببها كلمة..
والكلمة نور، وبعض الكلمات قبور.
الكلمة فرقان ما بين نبيّ وبغيّ،
لذا، رجاءً، اختاروا كلماتكم قبل أن تنطقوا بها، ولا تجعلوا من بعض الكلمات رصاصًا قاتلًا…