زكية لعروسي: معاناة المثقف.. بين الاعتراف المؤجَّل وغربة الخارج

زكية لعروسي: معاناة المثقف.. بين الاعتراف المؤجَّل وغربة الخارج زكية لعروسي
هناك دائرة مغلقة تطارد المثقف، دائرة لها هيئة لعنة قديمة تلتصق بالوعي أينما ذهب. دائرة لا يعرفها إلا الذين ولدوا وفي جبينهم شرارة معرفة، ثم وجدوا أنفسهم في أوطان لا تجيد سوى تجاهل الضوء. تلك الدائرة هي التي تصنع هذه المفارقة المروعة: الوطن الذي يطالب بالكفاءات، هو نفسه الذي يطردها حين تأتيه.

فالوطن، في بنيته العميقة، يبدو مصابا بعمى غريب: يرى الكفاءات حين تبتعد، ولا يراها حين تجلس أمامه. يسمع التصفيق القادم من وراء الحدود، لكنه يشيح بوجهه عن الأصوات التي تهتف له من الداخل حتى بحّ صوتها. وكأن العيون تتسع فقط لرؤية ما يلمع من بعيد، لا ما يضيء تحت أنفها.

هكذا يتحول صاحب الكفاءة إلى شبح شفاف داخل وطنه، وجوده حاضر مثل هواء لا أحد ينتبه لوجوده. وما إن يحصل على إعتراف خارجي، حتى يتحول فجأة إلى "اكتشاف مذهل" لم يكن مرئيا قبل أن يتوشح بضوء غريب. الوطن لا يعترف بما يصنعه، لكنه يصفق لما يخطفه الآخرون منه. وهذا هو العطب الأكبر: إعتراف مؤجل، متعثر، يأتي فقط حين يُحرج الوطن من وضوح الحقيقة.

وسط هذا الخلل البنيوي، يولد الرحيل. ليس الرحيل إنتقالا جغرافيا، بل إنقلابا داخليا، إحتجاجا فلسفيا يعلنه العقل حين يقول لنفسه: لا جدوى من البقاء في مكان لا يرى. الرحيل يصبح ضرورة للحفاظ على ما تبقى من نفَس، من جدوى، من شعور بأن المرآة ما زالت تعكس صورة الإنسان. فالانتظار داخل الوطن يشبه الجلوس في ساعة بلا عقارب، لا زمن يتحرك، ولا إعتراف يُولد، ولا باب يفتح.

لكن المعاناة لا تنتهي عند حدود المطار. في المهجر، يعيش المثقف معاناة أخرى: معاناة الانسلاخ، التمثيل الناقص، يعيش المثقف المنفي داخل ما يشبه الفراغ المزدوج: هو بعيد عن وطنه، وفي الوقت نفسه غير مرئي داخل شبكات تمثيله الخارجي. كأن المنفى يوسع المسافة بينه وبين وطنه، لكنه كذلك يوسع المسافة بينه وبين المؤسسات التي تظن أنها الناطق الرسمي عنه. وهكذا تصبح رحلة المنفى رحلة لإثبات الذات، لكن خارج كل الأطر التي كان يجب أن تحتضنه منذ البداية.

ثم تأتي لحظة العودة. العودة ليست حركة جسد يعود إلى موطنه، بل حركة معرفة عادت وقد توسعت، تشبّعت بالتجربة والانفصال والبحث عن الاعتراف في أماكن لم تنشأ فيها. ومع ذلك، فالوطن لا يرى في العائد قيمة جديدة، بل يرى "إحراجا" جديدا: العالم رأى ما لم يره، فأصبح مضطرا للاعتراف حفاظا على ماء الوجه. اللقاء بين المثقف العائد والمؤسسات التي تجاهلته يشبه مشهدا غرائبيا: العقل يطرد من الباب، ثم يعود من الشرفة، والمؤسسة التي أنكرت معرفته تهرول نحوه وكأنها صاحبة الاكتشاف.

إن هذه الحركة بين الرحيل والرجوع ليست مجرد مسار حياة، بل فضيحة معرفية وثقافية تكشف هشاشة البنية العميقة داخل أوطاننا. لماذا نثق بما يأتي من الخارج أكثر مما يأتي من الداخل؟ لماذا يحتاج الوطن إلى ختم أجنبي ليصدق أبناءه؟ ولماذا نستورد خبرات أقل مما خسرناه، ثم نعيد تمجيدها وكأنها فتح مبين؟

إنه المرض القديم ذاته: مرض جعلنا نرى البعيد أكبر من القريب، والمسافة أهم من القيمة، والضوء الخارجي أبهى من الضوء الذي نصنعه بأيدينا. مرض ثقافي يجعل الوطن يعيد إنتاج التهميش، ويعيد طرد الكفاءات، ثم يعود ليطلبها حين تبتعد. 

ومع ذلك، فإن رحلة الكفاءات ليست هزيمة. إنها احتجاج مكتوب بالنار. احتجاج يكشف ضعف البنى التقليدية، ويثبت أن المعرفة لا تنتظر اعترافا رسميّا، وأن المثقف يظل أكبر من الخرائط، وأعمق من الحدود، وأقوى من تهميش تتوارثه المؤسسات.

إن الوطن الذي لا يرى عقوله، لن يراها حتى لو عادوا محمّلين بأنوار العالم. أما الذين يرحلون، فهم لا يهربون؛ إنهم يعبرون إلى فضاء يسمح لهم بأن يكونوا ما كان يجب أن يكونوا عليه داخل الوطن.
 وفي النهاية، يبقى المثقف، رغم الدوران في دائرة اللعنة، هو الذي يرى أبعد من حدود الوطن العمياء، وهو الذي يصنع القيمة حتى لو لم يصنع الوطن لها مكانا.