في المطبخ المغربي تعد التوابل سرا من أسرار نكهة الأطباق على سبيل التقديم:
وصف أحد الظرفاء "الْكَمُّونْ" بـ "سُلْطَانْ الْعَطْرِيَّةْ". وأرجع سبب هذا الوصف بقوله" "كلهم في الصفوف الأمامية لمواجهة لهيب النار". باستثناء "هَادْ خَيْنَا ﮜالَسْ مَّخْمَخْ، مَا يْفِيقْ حْتَّى تْسَالِي الْمَعْرَكَةْ" في إشارة لباقي التوابل خلاف مادة "الْكَمُّونْ".
وأوضح صديقي بوشعيب بسخريته المعتادة وحديثه الفكاهي، بأن أغلب التوابل يقضون أكثر من ساعتين "وهُومَا فُوقْ الْعَافْيَةْ، تَسْلَخْ فِيهَمْ، حَتَّى يْلَصْقُو مْعَ قَاعْ ـ الْكُوكُوطْ أو الْـﮜامِيلْةْ أو الطَّجِينْ ـ ويعيشون "معارك حامية الوطيس مع كل أنواع الخضر" بينما هو مختفي في منطقة الظل ينتظر مناسبة معينة لينثروه فوق أطباق "الشِّوَاءْ أو الْبِيصَارَةْ والبيض الْمَسْلُوقْ".
وقال في "سُلْطَانْ الْعَطْرِيَّةْ" ما لم يقله الشعراء في الخمر حيث وصفه بقوله: "وَاحَدْ الْمَعْـﮜازْ مَنُّو مَا كَانْ". لدرجة أنه "حْتَّى يَتْحَكْ عَادْ يَعْطِي الرِّيحَةْ"
تعتبر التّوابل سرّ أساسي من أسرار تألق تذوق مختلف أطباق طعام المطبخ المغربي، بحيث أن كل الأسر المغربية تنسج علاقات وطيدة ومتميزة مع "عَطَّارْ" الحي أو "عَطَّارْ" السوق الأسبوعي، بما فيه عَطَّارْ القبيلة والدوّار، لاقتناء أجود توابل "الْعَطْرِيَّةْ" الضامنة لانبعاث روائح "الْـﮜَامِيلَةْ" و "الْحَمَّاسْ" و "الطَّاجِينْ" دون أن نغفل الحديث عن تألق حاسم الشم أمام توابل اللحم المشوي، إلى جانب "الْعَطْرِيَّةْ" الخاصة بطهي الأسماك، بالإضافة إلى تميز "عَطْرِيَّةْ الْقَهْوَةْ" وشربة "الْحَرِيرَةْ" و "الْبِيصَارَةْ" والبيض المسلوق وما جاوره من مأكولات متعددة يفخر بها المطبخ المغربي الضارب بجدوره في عمق الحضارة والتاريخ.
فمن خلال رائحة التوابل المنبعثة من المطبخ المغربي تستبق حاسة الشّم قبل المعدة، الإجابة عن سؤال نوع الطبخ الذي تعده أياد المرأة الْحَادْﮜَةْ داخل البيت، سواء كان المناسبة شهر رمضان الكريم، أو عيد الأضحى، أو حتى مناسبات الأعراس في فصل الصيف، أما في فصل الشتاء فحدث ولا حرج عن موضوع الطبخ الاستثنائي القاهر للبرد والجوع.
ومن المعلوم أن لكل نوع من التوابل لحظة زمنية من أجل إدماجه مع مكونات الطعام وسط نوع آنية الطبخ المعرضة للهيب النار، سواء كانت الآنية مصنوعة من الطِّين أو المعدن، بحيث يرتبط ذلك بمقاييس المزج، والخلط، والطهي ودرجة الحرارة وكمية الدهون والماء حتى لا تتعرض التوابل للحرق وتضيع نكهة التذوق. ألم يقل المغاربة ضمن أمثالهم الشعبية التي صاغتها الثقافة الشفهية بأن "إِيدْ الْحَادْﮜةْ فِ الطْعَامْ إِيدَامْ"؟
المؤكد أن أغلب مكونات "الْعَطْرِيَّةْ" تتعرض للهيب نار جهنم بدون رحمة ولا شفقة خلال إعداد كل أنواع الطهي، وتتعرض لعذاب درجات الحرارة وسط "الطَّاجِينْ" وكل أنواع أواني الطبخ، باستثناء مكوّن واحد يعتبره المتخصصون في المجال "سُلْطَانْ الْعَطْرِيَّةْ" وهو المحترم سيدنا "الْكَمُّونْ" أبقاه الله ملاذا عجيبا وساحرا لمأكولات الفقراء والأغنياء على السواء.
سلطان "التوابل" حفظه الله من الحرق ولهيب النار، فيه دواء وشفاء للمعدة والمصارين المضطربة من شدة المغص، ويخفف سحره من "صْرَيْصْرَةْ" التي تعجل بزيارة "بيت الراحة" لإطلاق تسونامي السيلان الذي لا يتوقف بفعل الإصابة بالإسهال الحاد والمفرط.
هذا المكون الساحر الذي يعرف زيادات متتالية في ثمنه ـ قد يصل إلى 150 درهم للكلغ الواحد ـ خصوصا في مناسبة عبد الأضحى، اختط لنفسه مسارا ناجحا في ترسيخ قيم التعاطي مع مختلف أطباق اللحم المشوي بالمطبخ المغربي، حيث يتم تهميش واستبعاد كل التوابل ومكونات "الْعَطْرِيَّةْ" ويجلس وحيدا إلى جانب الملح بعد أن يوضع في صحن مزخرف لا يليق إلا بفخامته، إلى درجة تقديسه أثناء تقديم "سَقِيطَةْ" غنم مشوية بواسطة الفرن التقليدي. كيف لا وهو الراعي الأساسي لمذاق وذوق "قُطْبَانْ بُولْفَافْ" وأطباق "الْكَفْتَةْ" التي تحتكر برائحة دخانها السيطرة على معدة ضيوف عدة مناطق سياحية بالمغرب.
إن فخامة "سُلْطَانْ الْعَطْرِيَّةْ" تجده يتقدم الصّفوف الأمامية قبل كسرة خبز الشعير، وقارورة زيت العود المقدسة، فوق مائدة الفقراء حين تقديم صحون وأطباق "البيصارة" المفضلة بمكونات "الفول وجلبانة" أعزها الله وأبقاها ملاذا وشفاء ودواء ضد موجة القر والبرد، واتقاء جسم الضعيف والفقير من شرور "فيروسات" الزكام ونزلاته التي لا تقاوم إلا بالثومة وما إليها من أعشاب ساخنة.
فعلا يستحق هذا المسمى بـ "الْكَمُّونْ" أن يتسلطن أمام باقي مكونات التوابل و "الْعَطْرِيَّةْ" ويرفع من شأن سيدنا "الْعَطَّارْ" الذي قيل فيه بأن "الْعَطَّارْ كَيْشَمْ مَنْ زْﮜاوْتُو". لكن تبقى كل أنواع العطرية ضرورة ملحة لإغراء حاسة الشم، خصوصا حين تنبعث رائحتها من إبريق قهوة فوق المجمر، حيث تفرز من بينها عطر "سكين جبير، والقرفة، وبسيبيسة، وخلجلان، وزريعة الكتان وعرقسوس، والنافع وما إليها من عطرية تستحق أن تتربع على عرش ذوق المغاربة الذين تفننوا في تقديم أنواع المشروبات والأطباق الساخنة بطريقتهم الخاصة.
على سبيل الختم:
"هل سمعتم بشربة الْحَرِيرَةْ "السْطَاعْشِيَّةْ"؟ وهل تذوقتم لذتها الفاخرة؟ إن هذه الحريرة تعدها المرأة المغربية بـ "ستة عشر مكوّنا" تحتسب فيها كل أنواع "الْعَطْرِيَّةْ" و "التَّوَاِبلْ" و "النَّبَاتَاتْ الْعِطْرِيَّةْ" و "الْقَطَانِي" وبعض "الْخُضَرْ" بالإضافة إلى أنواع اللحوم البيضاء والحمراء وغيرها من مكونات أخرى منسِّمة. وقد جاء في القول المأثور في ثقافة سنابك الخيل والبارود "لَحْرِيرَةْ السْطَّاعْشِيَّةْ لِخَيْلْ لَعْشِيَّةْ" بمعنى أنه حين ينزل الفرسان من صهوة خيولهم في المساءات الباردة تقدم لهم هذه الشربة الغنية بكل ما تشتهيه النفس وإنعاش الطاقة والروح.