هناك رجال يمرّون في دروب الحياة وعوالم الصحة كنسائم خفيفة…
لا يرفعون أصواتهم، ولا يبحثون عن الأضواء،
لكن أثرهم يبقى، عميقاً… دافئاً… عصياً على النسيان.
الدكتور ابو عزة البوعزاوي واحد من هؤلاء.
صيدليّ عالم، وكاتبٌ أمين، وشاهدٌ نادر على رحلة الصيدلة في المغرب.
قلمه كان مثل يدٍ تُزيل الغبار عن ذاكرة مهدّدة بالنسيان.
كتب ما صمت عنه كثيرون، وفصّل ما اختصره آخرون،
وأضاء زوايا كان الزمن يوشك أن يطفئها.
بنّاءٌ للمعرفة… لا مجرّد ناقلٍ لها
في بلدٍ عانت فيه العلوم الصيدلانية طويلاً من قلّة التوثيق،
اختار الدكتور البوعزاوي الطريق الأصعب: طريق المؤلِّف.
كتبه، الدقيقة في تفاصيلها، الصارمة في منهجيتها،
أصبحت اليوم مرجعاً للطلبة، وللصيادلة، وللمهتمّين بتاريخ الصحة.
لم يكن يكتب ليُعجب،
بل ليُعلّم.
لم يكن يخاطب نخبة ضيقة،
بل مهنة كاملة كانت تبحث عن جذورها وملامحها.
ومن خلال مؤلفاته، أعاد للصيدلة المغربية وجوهها الإنسانية والعلمية والاجتماعية والأخلاقية.
رجلٌ مستقيم… وصوتٌ قليل الكلام كثير الحكمة
خارج كتبه، بقيت صورته صورةَ رجلٍ يحظى باحترامٍ عميق.
مهنيّ نزيه، متمسّك بأخلاقيات المهنة، غيور على استقلالية القرار الصيدلاني، حريص على قيمة الخدمة التي تُقدَّم للمريض.
كان من جيلٍ يؤمن أن صرف الدواء ليس مجرد معاملة تجارية،
بل لحظة إنسانية: إنصات… شرح… وطمأنة.
كان يتكلّم قليلاً،
لكن كلماته لم تكن تخطئ.
يرى كثيراً،
ينتقد نادراً،
ويرفض دائماً السطحية والزيف.
ركنٌ من أركان ثنائيّ استثنائي
ولا يمكن الحديث عن الدكتور البوعزاوي دون ذكر المرأة التي شاركته الطريق والرؤية والرسالة:
الأستاذة نعيمة لمدور، سيدة من سيدات طب الأطفال في المغرب،
طبيبة متفانية، أستاذة ملهمة، رائدة في تخصصها.
كانا يشكّلان ثنائياً نادراً…
الصيدلة تتحدث في كتبه،
وطب الأطفال يزهر في مصلحة مستشفى الأطفال بالرباط ومدرجات كلية الطب والصيدلة وكتاباتها.
هو يؤرخ.
وهي تُنقذ وتُدرّس وتُكوّن أجيالاً.
هو يبني معرفة.
وهي تبني حياة أطفال.
جمعتهما فضيلة واحدة: خدمة المغرب، وخدمة الصحة، وخدمة الإنسان…
بالعلم، بالتواضع، وبالالتزام.
إرثٌ لا يُمحى
لا تزال كتب الدكتور أبو عزة البوعزاوي، حتى اليوم،
مصادر أساسية لفهم:
تحوّل مهنة الصيدلة في المغرب
تاريخ صرف الدواء وإشكالاته
تحديات التشريع الصيدلي
تطور مكانة الدواء في المجتمع
وأحياناً… الانحرافات التي قد تهدّد المهنة إن غابت الأخلاق
إرثه ليس بين دفّتي الكتب فقط،
بل في المثال الذي تركه وراءه:
مثال الانضباط، والإخلاص، والنزاهة الفكرية.
ذاكرةٌ تستحق الوفاء
الكتابة عنه ليست مجرد تكريم،
بل تذكيرٌ بما قدّمته شخصيات صامتة لبناء المهنة، وبأن الصحة لا تتقدم بالصراخ، بل بالعقول التي تعمل في هدوء، وبالأيادي التي تكتب كي يبقى الشيء ولا يضيع.
وهي أيضاً دعوة للاعتراف بعمرٍ قُضي في خدمة المعرفة والمريض…
عمرٍ تقاسمه مع امرأة عظيمة، الأستاذة نعيمة لمدور، التي أنارت طب الأطفال في المغرب، ولا تزال نموذجاً للطبيبة والأستاذة والإنسانة.
الأستاذة نعيمة لمدور البوعزاوي، الله يطوّل عمرها، هي قدوة لي ولأجيال كثيرة.
طُوبى لكم…...
وطوبى لمغربٍ أنجب هذه القامات.