بوزكارن: النموذج الاسكندنافي بنكهة مغربية.. ما الذي يمكن أن نتعلمه من اليسار الديمقراطي؟

بوزكارن: النموذج الاسكندنافي بنكهة مغربية.. ما الذي يمكن أن نتعلمه من اليسار الديمقراطي؟ حسام بوزكارن

في نونبر 2025، حقق زهران ممداني، المرشح الاشتراكي الديمقراطي البالغ من العمر 34 عاما، فوزا تاريخيا في انتخابات عمدة نيويورك، هازما الحاكم السابق أندرو كومو في معركة انتخابية وصفت بأنها زلزال سياسي. هذا الفوز يعتبر درسا استراتيجي عميق لكل شاب مغربي يفكر في دخول الساحة السياسية، خاصة مع اقتراب انتخابات 2026. أظن أن من الضروري قبل الدخول في التفاصيل أن أضع حدود موقفي بقدر من الوضوح. فخلافي مع ممداني قائم في بعض المسارات، خصوصا ما يتصل بمواقفه من قضايا المثلية التي لا تنسجم مع قيمنا الإسلامية والمغربية. لذلك لا يعنيني استنساخ أيديولوجيته بقدر ما يهمني استلهام طريقته في التفكير، خاصة أدواته الرقمية، وفهمه للعبة السياسية ونموذجه الاقتصادي القريب من الديمقراطية الاشتراكية التي أثبتت نجاحها في التجربة الاسكندنافية.

 

اليسار الديمقراطي والنموذج الاسكندنافي

ماذا نعني باليسار الديمقراطي؟ عندما نتحدث عن اليسار الديمقراطي أو الديمقراطية الاشتراكية، فنحن لا نتحدث عن الاشتراكية الماركسية التقليدية التي تدعو لإلغاء الملكية الخاصة. النموذج الاسكندنافي يشير إلى نوع من الرأسمالية يقوم على الملكية الخاصة واليات السوق مع مجموعة من السياسات التي تعزز الأمن الاقتصادي والفرص في إطار الاقتصاد الرأسمالي، وليس أيديولوجية تهدف إلى استبدال الرأسمالية نفسها وإنما دمج بين التصورين.

هذا النموذج يقوم على مزاوجة بين:

سوق حر قوي: حيث تزدهر الشركات الخاصة، مثلا في الدنمارك شركات مثل ميرسك عملاق النقل البحري، وسبوتيفاي وفولفو وإريكسون في السويد، هذه الشركات تثبت أن النموذج ليس معادي للخواص بشكل عام.

تدخل واسع للدولة: عبر الضرائب التصاعدية أي من يملك أكثر يدفع أكثر هذه الأداة تساعد في إعادة توزيع الثروة وخلق توازن داخل المنظومة الاقتصادية، ونظام رفاه اجتماعي شامل يشمل الرعاية الصحية المجانية والتعليم المجاني والضمان الاجتماعي.

 

الدنمارك: صيغة توازن ناجحة

دعونا نتوقف عند الدنمارك كمثال. النموذج يتميز بمزيج فريد من دولة رفاه شاملة واقتصاد سوق رأسمالي. ما يلفت النظر هنا هو أن هذا النموذج بني على البراغماتية والتوافق، أي أن ما يميز هذا النموذج هو أنه بني على حلول واقعية تبحث عما يصلح الناس فهي دول اختارت التوافق العملي بين السوق والرفاه الاجتماعي. الأهم من ذلك، النموذج يتضمن شراكة بين أصحاب العمل والنقابات العمالية والحكومة، حيث يتفاوض هؤلاء الشركاء الاجتماعيون على شروط تنظيم مكان العمل فيما بينهم، بدلا من فرض الشروط بموجب القانون الأحادي الذي له مصلحة ضيقة لصالح جهة واحدة فقط، وهذا ما يسمى بالنموذج التعاوني.

وقد يثير هذا النموذج سؤال المردود أو النتيجة، والتي تتمثل فيما يلي: انتاج المساواة والتنقل الاجتماعي، حيث يحصل الجميع على خدمات عامة عالية الجودة، بما في ذلك بعض من أفضل التعليم والرعاية الصحية في العالم. الناس سعداء بدفع ضرائبهم لأنهم يرون نتائج ملموسة في حياتهم اليومية بشكل مبسط.

وقد يتساءل البعض لماذا نحتاج إلى هذا النموذج؟

الإجابة تكمن في التوازن، الرأسمالية الخالصة تخلق فوارق طبقية هائلة وتترك الفقراء دون حماية. الاشتراكية الخالصة تقتل الحافز الفردي والابتكار. لكن الجمع بين الاثنين يخلق سوق حر لتوليد الثروة، وتدخل حكومي لتوزيعها بشكل عادل يخلق نظاما مستداما يرضي الجميع.

وهنا يأتي دور ممداني، فهو ترشح على وعود بمواجهة عدم المساواة الاقتصادية وقضايا تكلفة المعيشة، متعهدا بتجميد الإيجارات وبناء مساكن ميسورة التكلفة وخدمة حافلات مجانية وأسرع ورعاية أطفال مجانية ومتاجر بقالة تملكها المدينة وزيادة الضرائب على الأثرياء. هذا بالضبط ما يفعله النموذج الاسكندنافي، خدمات عامة قوية ممولة من ضرائب تصاعدية.

ما أظهره ممداني هو أن مرشحا اشتراكيا ديمقراطيا صريحا يمكنه التواصل مع ناخبين أوسع من خلال صياغة برنامج مصمم للتحدث مباشرة إلى مخاوف الناخبين، خاصة عندما تكون مقترحاته المحددة مثل الحافلات المجانية ورعاية الأطفال وتجميد الإيجارات مفهومة وشعبية.

 

الدرس الاستراتيجي من ممداني والترويج الرقمي

 

الآن دعونا ننتقل إلى الجزء الأكثر أهمية لشباب المغربي الراغب في اقتحام الساحة السياسية، كيف فاز ممداني؟ الإجابة تكمن في التسويق الرقمي الذكي.

حملة ممداني الذكية رقميا، التي ركزت بدقة على قضايا تكلفة المعيشة، أشعلت حماس سكان نيويورك. لم يكن ممداني مشهورا قبل سنة واحدة، كعضو في الهيئة التشريعية لولاية نيويورك من كوينز لثلاث فترات، كان يقف في الشارع ممسكا بالميكروفون يستجوب المارة، الذين يمرون بجانبه دون اكتراث لهذا الشاب، كان ينظر إلى ممداني في البداية كمرشح احتجاجي بفرص ضئيلة في الفوز. لكن في غضون شهور، ارتفع ممداني من الغموض إلى الشهرة عبر الإنترنت، محققا أكثر من مليون متابع على إنستغرام، بالإضافة إلى مئات الالاف على تيك توك وإكس أي تويتر.

قد يخطر في بالك سؤال، كيف حدث ذلك؟ وسأجيب على هذا السؤال عبر خمسة مستويات:

المحتوى القصير: من إعلانه في أواخر 2024 حتى الأسبوع الأخير من الحملة، أنتج فريق ممداني مقاطع فيديو قصيرة محملة بالعواطف ومحسنة للمشاركة للعامة. لم يكن يتحدث إلى الناخبين، بل كان يتحدث معهم، أي أن التحدث الى الناخب هنا تكون العلاقة أحادية، فقط نقل الأفكار بدون رد الناخب، أما التحدث مع الناخب فهي توحي بعلاقة ثنائية بين الطرفين تدور في فلك التفاعل والتحاور، وهذا هو النهج الذي اتبعه ممداني في خلال حملته الانتخابية، ودليل على النهج هو مقطع فيديو واحد على تيك توك بعنوان Subway Takes حقق أكثر من 6 ملايين مشاهدة.

التواصل الحقيقي: كسر ممداني في هذه الجزئية الهرم التقليدي بين السكان والمرشحين، فهو يلتقي بسكان نيويورك في الشوارع ويختلط بهم في الأماكن العامة.

التعاون مع المؤثرين المحليين: حتى في هذه الجزئية خالف النهج التقليدي فبدلا من توظيف مؤثرين مصقولين، تعاون مع منشئي محتوى محليين وناشطين طلابيين.

المحتوى متعدد اللغات: قد لا يكون ذا صلة بالشاب المغربي، لأن مجتمع نيويورك يختلف جذريا عن المجتمع المغربي. فمواد حملة ممداني كانت بعدة لغات منها الهندية والأوردو والعربية والبنغالية ولغات أخرى، تحدثت مباشرة إلى سكان نيويورك المهاجرين حول القضايا المادية التي تؤثر على حياتهم. لم يكتف بترجمة منشورات، بل أنتج محتوى أصليا بلغات مختلفة يتحدث فيها بنفسه.

التنظيم الشعبي القوي: منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكية، التي يشارك ممداني في عضويتها، تضم نحو 90 ألف عضو على المستوى الوطني، ويعد فرع نيويورك من أكبر الفروع وأكثرها نشاطا. أثبتت المنظمة قدرتها على التأثير في انتخابات المجلس البلدي والولاية، وساهمت في تحويل النواة الأولية لممداني إلى حركة جماهيرية واسعة، حيث شارك الاف المتطوعين في طرق الأبواب وحشد الدعم.

بعد عرض هذه المستويات، ما الذي يمكن أن يتعلمه الشباب المغربي؟

الدرس يكمن في أن التسويق الرقمي لم يعد رفاهية، بل ضرورة استراتيجية. المغرب اليوم لديه ملايين المستخدمين على فيسبوك وإنستغرام وتيك توك، لكن الأحزاب السياسية المغربية لا تزال تعتمد على الطرق التقليدية، الملصقات في الشوارع، الاجتماعات المغلقة، والخطابات المملة، وحتى لو أطلقت حملة رقمية، فإن تأثيرها يبقى محدودا ولا يصل إلى قلب الشارع المغربي. لكن الشباب المغربي اليوم يعيش على الإنترنت. إذا أردت الوصول إليهم، عليك أن تكون حيث هم عليك أن تتحدث بلغتهم وأن تنتج محتوى أصيلا وحقيقيا وأن تتعاون مع مؤثرين محليين وكذلك التقليديين، وأن تبني حركة شعبية حقيقية، ليس من خلال الخطب الرنانة، بل من خلال الحوار المباشر والتواصل اليومي.

لكن هنا التحذير المهم، هذا النهج قد يكون مكلفا سياسيا، النظام السياسي المغربي محافظ ولا يحب المفاجات. الشاب الذي يتبنى هذه الاستراتيجية قد يجد نفسه في مواجهة مع النخب التقليدية، لكن إذا كنت مستعدا لدفع الثمن، فالمكافأة قد تكون كبيرة.

 

الطريق الثالث المغربي

في النهاية، ما أدعو إليه هو طريق ثالث مغربي، لا رأسمالية متوحشة تترك الفقراء يموتون جوعا، ولا اشتراكية ماركسية تقتل الحرية والابتكار. نريد نموذجا يجمع بين الحرية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية الحقيقية

ممداني علمنا أن الشباب قادر على تغيير الواقع السياسي إذا امتلك الاستراتيجية الصحيحة والشجاعة الكافية. النموذج الاسكندنافي يعلمنا أن الجمع بين الرأسمالية والاشتراكية ممكن وناجح.

المشكلة الوحيدة؟ النخب السياسية الفاسدة التي تعيق التنفيذ.