في زمن تتغير فيه خرائط الشرعية الدولية، وأضحت في الدعوة إلى ضرورة إعادة المنظمات الإقليمية والدولية النظر في قواعدها المؤسسة، يبدو الإتحاد الإفريقي أمام إمتحان تاريخي يفرض عليه مراجعة إرثه القانوني، خاصة فيما يتعلق بعضوية جبهة بوليساريو، التي تسللت إلى هياكل المنظمة خلال مرحلة كانت فيها إفريقيا تعيش على وقع ضجيج الحرب الباردة وضباب الإصطفافات الأيديولوجية. فلم يكن 12 نونبر 1984 بمعزل عن هذا الاصطفاف حين تم قبول عضوية ما يطلق عليها "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" داخل منظمة الوحدة الإفريقية. لقد اتخذ الأمين العام للمنظمة الافريقية حينها "إديم كودجو" هذا القرار بشكل منفرد، لم يكن ذلك القبول تتويجا لدراسة قانونية صلبة لقبولة عضوية دولة ، بل كان أشبه بـ«نافذة فتحت في عاصفة»، دخل من خلالها كيان لا تتوافر فيه شروط الدولة كما حددتها اتفاقية مونتيفيديو لعام 1933، ولا المعايير المعتمدة لدى المنظمات الإقليمية والدولية، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة التي لم تمنح بوليساريو يوما صفة الدولة ولا مقعد العضوية.
إن المادة 29 من ميثاق الإتحاد الإفريقي تبدو اليوم كصفحة تحتاج إلى إعادة كتابة، فهي تنص على أن «كل دولة إفريقية مستقلة يمكنها الانضمام»، لكنها تتجنب تعريف الدولة، ولا تضع آليات قانونية تمكن المنظمة من التحقق من سيادة المتقدم للعضوية. وفي غياب هذا التحديد وقع الإتحاد في تناقض شبيه بما لو حدث داخل الإتحاد الأوروبي، حيث لا يمكن لأي كيان غير معترف بسيادته من الأمم المتحدة أو غير متوفر على مؤسسات دولة مكتملة الإنضمام إلى الإتحاد أو التوقيع على مواثيقه. كما أن منظمات مثل مجلس أوروبا أو منظمة الدول الأمريكية تعتمد على معايير دقيقة للعضوية، ترتكز على السيادة واحترام القانون الدولي وامتلاك مؤسسات منتخبة تمارس سلطتها على إقليم محدد، بينما ظل الإتحاد الإفريقي وحده يستثني نفسه من هذا المنطق، في تناقض يضعف مصداقيته أمام شركائه.
والأدهى أن المادة 4 من الميثاق التي تؤكد إحترام الحدود الموروثة عند الإستقلال وعدم المساس بوحدة الدول، تكاد تكون نقيضا مباشرا لقبول كيان بلا حدود و بلا سيادة وبلا مؤسسات فعلية، فهو يشبه مجازا بعملية صيانة سفينة عبر إحداث ثقب في بدنها، فالميثاق الذي يفترض أن يحمي وحدة الدول الأعضاء تحول إلى مظلة تسمح بوجود كيان يسعى إلى تفتيت دولة عضو، وهو تناقض لا يمكن أن يستمر في زمن باتت فيه الدول الإفريقية تبحث عن الإستقرار لا عن إعادة إنتاج نزاعات مصطنعة.
وليس بالغريب أن تضع مؤسسات اقليمية مماثلة أو دولية آليات قانونية تمنع مثل هذا التناقض. فالإتحاد الأوروبي يشترط في المادة 49 من معاهدة لشبونة أن تكون الدولة المرشحة «دولة ذات سيادة كاملة معترف بها دوليا»، كما يتطلب مجلس الأمن حتى في توصياته غير الملزمة وجود حكومة قادرة على ممارسة سلطاتها على أراضيها قبل الإعتراف بأي كيان كدولة جديدة. بل إن الأمم المتحدة نفسها ترفض التصويت على قبول أي كيان ما لم تتأكد من إستيفائه لمعايير السيادة، وهو ما يبرز الهوة القانونية التي وقع فيها الإتحاد الإفريقي عند قبوله عضوية جبهة بوليساريو.
إن الزمن السياسي الإفريقي اليوم، بمعطياته المتغيرة وجيوسياسته الجديدة سيدفع لا محالة بقوة نحو إصلاح قانوني حقيقي يعيد ترتيب البيت الإفريقي. ومن بين المقترحات التي أضحت تكتسي وجاهة قانونية وإستراتيجية، إعادة صياغة المادة 29 بحيث تنص صراحة على أن العضوية محصورة في الدول ذات السيادة الكاملة المعترف بها من الأمم المتحدة. و إقرار إلزامية رأي قانوني صادر عن لجنة الشؤون القانونية للاتحاد قبل قبول أي عضو جديد ،فضلا على إدراج بند صريح يتيح تجميد أو إنهاء عضوية أي كيان يتضح أنه لا يملك مقومات الدولة أو يتعارض وجوده مع المادة 4 المتعلقة بوحدة الدول ، و إحداث آلية مراقبة مؤسساتية للتأكد من أن العضوية لا تمنح إلا للكيانات التي تمتلك حكومة فعلية وساكنة دائمة(شعب)، وإقليم محدد ، كما هو الحال في المنظمات الإقليمية الكبرى. إن اعتماد مثل هذه البنود ليس مجرد تعديل تقني، بل هو بمثابة «جراحة دستورية» ضرورية لإنقاذ جسد الإتحاد من تشوهاته القديمة. فالقارة اليوم تبني مستقبلها على منطق الدولة الوطنية المستقرة، وليس على أشباح سياسية تتغذى من صراعات الماضي. فالدينامية المتصاعدة لسحب الإعترافات الإفريقية ببوليساريو ليست سوى مؤشر على أن القارة بدأت تستعيد بوصلة الشرعية، وأن «ساعة الحقيقة» تقترب، حيث لا يبقى داخل الإتحاد الإفريقي إلا الدول التي تمتلك سيادة حقيقية ومؤسسات فعلية.
ختاما،إن نهاية هذا الوضع الشاذ ليست مسألة نزاع إقليمي فحسب، بل هي ضرورة قانونية لضمان الإنسجام الداخلي للإتحاد، وضرورة سياسية لإستعادة مصداقيته الدولية، وضرورة إستراتيجية لضمان أن تظل إفريقيا قارة الدول، لا قارة الكيانات الهشة. وكما قال أحد القادة الأفارقة القدامى :"لا مستقبل لقارة تبنى على الرمال المتحركة."
د/ الحسين بكار السباعي، محلل سياسي وخبير إستراتيجي.