عبد الرفيع حميدي في الوقت الذي تراهن فيه الدولة على تحسين صورة المستشفيات وتطوير بناياتها وتجهيزاتها، يواجه المواطن البسيط القادم من القرى والهوامش واقعًا مختلفًا تمامًا؛ واقعًا تختفي فيه الإنسانية خلف شبابيك ضيقة، وتموت فيه كرامة الإنسان في طوابير انتظار لا تنتهي، فيما يتحوّل الجهل بالقراءة والكتابة إلى باب واسع للتسلّط والابتزاز
ولعلّ الحالة القادمة من منطقة الزومي نحو المستشفى الجامعي بطنجة ليست سوى مثال واحد من مئات الحالات التي لا تُرى
خرجت الأسرة في الثالثة فجراً عبر طريق وعرة، مستقلّة وسيلة نقل خاصة كلّفتها مبالغ تثقل كاهلها وصلت مع أولى خيوط الصباح، وظلّت تنتظر حتى الساعة السادسة والنصف مساءً فقط من أجل الخضوع لفحص بسيط بجهاز "السكانير" الذي لا يوجد سوى في المستشفى الجامعي
إنها ليست رحلة علاج… بل رحلة معاناة تكشف حجم الهوّة بين ما يُعلن في الخطابات الرسمية وما يعيشه أبناء القرى والهوامش على الأرض
رحلة تثبت أن المستشفيات الحديثة لا قيمة لها ما دام الوصول إلى خدماتها الأساسية يستنزف جيوب الفقراء، ويهدر وقتهم، ويضع كرامتهم على المحك
أمية تتحول إلى نقطة ضعف
يحمل سكان القرى همّ المرض فوق أكتافهم، لكنهم ما إن يصلوا إلى المستشفى حتى يجدوا أنفسهم أمام معاناة أخرى أكثر إرباكًا مساطر صحية معقدة لا تراعي أوضاعهم التعليمية والاجتماعية، وتحتاج إلى حدّ أدنى من الفهم الإداري الذي لا يملكونه
وبدل أن يتحوّل مكتب الاستقبال إلى بوابة للتوجيه والمواكبة، يصبح في بعض المستشفيات فضاءً للتعقيد، حيث تقف بعض الموظفات حاجزًا غير مرئي بين المريض وحقه في العلاج نتيجة غياب التكوين وضعف التأهيل ما يجعل الطريق نحو الفحص أو العلاج أطول وأقسى
وعوض الابتسامة والكلمة الطيبة، يجد المواطن صوتًا مرتفعًا، أو نظرة استهزاء، أو نبرة توبيخ، وكأن لسان حال البعض يقول أش خاصّك العريان؟ الخاتم أمولاي
وهي عبارة تلخّص عقلية تسلّط لا مكان لها في خدمة عمومية يُفترض أن تقوم على الكرامة والإنسانية قبل أي شيء آخر
محسوبية وزبونية باسم الصحة
يُفترض بالمستشفى أن يكون فضاءً للمساواة، حيث يمرّ الجميع عبر المسار نفسه دون تمييز أو تفضيل لكن الواقع يكشف أن الوساطة والمعرفة ما تزالان تتحكمان في حركة المرضى داخل الممرات وفي ترتيب من يقف أولًا أمام الطبيب ومن يبقى تائهًا بين الأبواب
هنا لا يصبح المرض هو الامتحان بل الإحساس بالظلم، حين تُعلَّق كرامة المواطن بين الحظ والعلاقات، بدل أن تُصان داخل مؤسسة خُلقت لخدمة الإنسان لا لخدمة الأشخاص
والمؤسف أن هذه السلوكات ليست مجرد حالات معزولة، بل هي عقليات مترسّبة، تتكرر يومًا بعد يوم، وتُفرغ قيم العدالة من محتواها فحين تُفتح الأبواب لمن يملك المعرفة وتُغلق في وجه من لا يملك سوى حاجته للعلاج، نكون قد ساهمنا بوعي أو دون وعي في إعادة إنتاج منطق الامتيازات الذي يقسم المجتمع إلى فئتين فئة تُعامل كـمواطنين، وأخرى تُعامل كـطوابير تنتظر أن يفرج عنها القدر
هذه الممارسات لا تسيء فقط للقطاع الصحي، بل تعكس خللًا أخلاقيًا عميقًا داخل منظومة القيم فالأمم لا تتقدم بالمباني الحديثة ولا بالشعارات اللامعة بل تتقدم حين تصبح المساواة سلوكًا يوميًا والإنصاف عادة مؤسساتية واحترام الإنسان ثابتًا لا يخضع للمزاج أو العلاقات
وإن نحن ما زلنا نتسامح مع هذه الطباع والخصال الذميمة من محسوبية، وزبونية، وتفضيل المحظوظ على المحتاج فلن تقوم لنا قائمة بين الأمم، مهما بنينا من مستشفيات ومهما أنفقنا من ميزانيات لأن جوهر الرقي ليس في حجم الأسِرّة ولا عدد الأجهزة، بل في كيفية معاملة الإنسان ومقدار احترام الزمن الذي يعيشه والكرامة التي يحملها
الانتظار القاتل… زمن بلا رحمة
قصة سكان القرى واحدة مهما تغيّرت المدن هي حكاية تتكرّر كل يوم، بتفاصيل مختلفة لكن بخاتمة واحدة الانتظار المرّ
خروجٌ في الثالثة صباحًا، تحت ظلامٍ يبتلع الطرق الوعرة وصولٌ في السابعة إلى بوابة المستشفى يحملون أملاً هشًّا في أن يجدوا من يصغي إلى أوجاعهم ثم انتظارٌ يمتدّ ساعات طويلة قد لا ينتهي إلا عند السادسة مساءً، وكأن الزمن داخل المستشفيات يسير بإيقاع آخر… إيقاع بطيء لا يرحم
في هذه الساعات تتآكل الطاقة، ويُستنزف الجسد، وتذبل الآمال، ويتحوّل الكرسي الخشبي في ممرّ المستشفى إلى عبء إضافي على المريض بدل أن يكون سندًا
وما هو أدهى من الألم نفسه هو الشعور بأن الوقت يُسرق من حياة هؤلاء، وأن معاناتهم لا تجد من يصغي إليها إلا حين تتحوّل إلى رقم في تقرير أو صورة في نشرات الأخبار
وبينما تُبذل جهود رسمية لتحسين صورة القطاع الصحي تحديث بنايات، اقتناء أجهزة، إطلاق حملات تتبخّر هذه الجهود في لحظة واحدة أمام طوابير الانتظار القاتل التي تُفرغ كل الإصلاحات من معناها وتحول الإنجاز إلى واجهة جميلة تخفي وراءها واقعًا هشًا، غير قادر على استيعاب مواطن بسيط، فبالأحرى استيعاب مئات القادمين من القرى كل يوم
إنها ليست مجرد ساعات ضائعة إنها حياة تُهدر، وكرامة تُستنزف، وثقة تُفقد وحين يفقد المواطن ثقته في المستشفى، يفقد ثقته في أهم مؤسسة من مؤسسات الدولة الانتظار هنا ليس مجرّد إزعاج إنه إهانة زمنية يدفع ثمنها الفقير الذي يقطع المسافات طلبًا للعلاج فيجد نفسه محاصرًا بالوقت، والبيروقراطية، وغياب التنظيم
بنايات جديدة… بعقليات قديمة
تتجدد الواجهات، وتُطلى الجدران بألوان زاهية وتُرتّب الممرات بعناية توحي بأننا أمام مستشفى بمعايير العصر تُلتقط الصور وتُنشر البلاغات الرسمية ويُقال إن القطاع الصحي يعيش نهضة حقيقية لكن خلف هذه الصورة اللامعة يبقى الواقع كما هو طواقم تُدير يوميات المرضى بعقليات الأمس
فما جدوى مستشفى حديث من الخارج، إذا كان من في الداخل يتعاملون بمنطق قديم لا يعترف لا بالكرامة ولا بحق المواطن في خدمة محترمة
كيف يمكن للتكنولوجيا أن تؤدي دورها، وللرقمنة أن تُحدث الفرق، إذا كان أول حاجز يواجه المريض هو صوت مرتفع أو نظرة استعلاء أو تعامل سلطوي يجعل المواطن يشعر بأنه متهم لا مريض
المستشفى ليس جدرانًا ولا تجهيزات فقط؛ المستشفى هو الإنسان الذي يستقبلك، واليد التي تدلّك، والكلمة التي تطمئنك،
والإدارة التي تعي أن المريض لا يبحث فقط عن الدواء، بل عن الاحترام أيضًا ما الفائدة من بنايات هندسية جميلة إذا كان الأداء داخلها مشوهًا ما الجدوى من أجهزة بملايين الدراهم إذا كان الوصول إليها يمر عبر أبواب من البيروقراطية ونبرات التوبيخ؟
إننا نحتاج إلى تجديد الإنسان قبل تجديد الجدران، وإلى تغيير العقليات قبل تغيير الواجهات، لأن المستشفيات تُشفى حين يشفى أسلوب التعامل فيها، لا حين تتجدد طلاءاتها
الصحة تحتاج إلى صحة
قبل أن نطالب المواطن بالانضباط والالتزام، يجب أن نتساءل هل القطاع نفسه منضبط وصحي هل المؤسسات التي من المفترض أن تعالج المرضى تُمارس ما تعلّمه أم أنها نفسها تعاني من عوائق داخلية تُضاعف معاناة المواطنين الإصلاح الحقيقي يبدأ من الداخل، ويحتاج إلى إجراءات واضحة ومحددة
تكوين الطواقم على الأخلاق قبل التقنيات، فالابتسامة والإنصات جزء من العلاج قبل أي جهاز أو آلة
محاربة البيروقراطية، لأن المريض ليس حالة إدارية، وكل ورقة زائدة تضيع الوقت وتزيد الألم
تسريع معالجة الملفات، فالوقت في الصحة وقت حياة، وقد ينقذ قرار سريع روحًا كاملة
جعل الإنسان مركز العملية الصحية لا ملحقًا إداريًا، حين يكون المريض محور كل الإجراءات، تتحول الخدمات من واجب إداري إلى رسالة إنسانية فالخلاصة التي يجب أن تُكتب على بوابة كل مستشفى
الصحة ليست بناية جميلة
الصحة هي معاملة جميلة
ومسار واضح
وتواصل كريم
وتدبير يحترم الزمن الإنساني قبل الزمن الإداري
حين يُصلح الداخل، تصح كل الواجهات، ويصبح القطاع الصحي قادرًا على تقديم ما يَستحقه المواطن من كرامة وخدمة حقيقية
ليس المطلوب معجزات، ولا أعجوبة تُغيّر الواقع بين ليلة وضحاها المطلوب فقط أن يشعر المواطن مهما كان فقيرًا، أمّيًا، أو قادمًا من أبعد نقطة في الوطن أنه إنسان داخل المستشفى، لا رقمًا على ورقة حين تستعيد المستشفيات صحتها في معاملاتها، وحين تصبح المعاملة الإنسانية والاحترام والتواصل الكريم قاعدة ثابتة، ستستعيد صحتها في خدماتها أيضًا وعندها فقط يمكننا أن نقول بحق الصحة لم تعد تحتاج إلى صحة