أكد محمد بنعليلو، رئيس لهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أن المغرب راكم منذ سنوات، إصلاحات ومبادرات متعددة في مجال النزاهة، لكن الزمن السياسي والمؤسساتي اليوم يفرض علينا أن ننتقل من رصد الجهود إلى قياس النتائج؛ ومن الحديث عن البرامج إلى مساءلة أثرها؛ ومن التركيز على "ما قمنا به" إلى التركيز على "ما تغير فعلا في الواقع".
جاء ذلك في كلمة افتتاحية له خلال اللقاء الدراسي حول تقييم أثر سياسات مكافحة الفساد الذي تنظمه الهيئة بالرباط على مدار يومي 25-24 نونبر 2025.
واعتبر بنعليلو أن هذا اليوم الدراسي الذي يشكل محطة تأسيسية "تنضاف إلى مسار بناء ثقافة جديدة داخل المنظومة الوطنية للنزاهة، ثقافة لا تكتفي بصياغة السياسات أو تنفيذها، بل تنتقل إلى تقييم أثر ما تحدثه هذه السياسات فعليا من تغيير في بنية السلوك المؤسسي، وفي التجربة الارتفاقية اليومية للمواطن، وفي جودة الحكامة العمومية.
نلتقي اليوم لنعطي انطلاقة مرحلة جديدة من مراحل التفكير العمومي حول النزاهة ومكافحة الفساد، مرحلة تتجاوز بداهة القول بأن "لدينا سياسات" نحو سؤال أكثر تعقيدا وأعمق مسؤولية:ماذا أحدثت هذه السياسات في المجتمع؟ وما الأثر الحقيقي الذي صنعته؟".
بنعليلو طرح اليوم للنقاش مشروع دليل علمي لتقييم أثر سياسات مكافحة الفساد باعتباره ثمرة شراكة بناءة بين الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها ومجلس أوروبا، باعتباره أول مرجع وطني متكامل في هذا المجال، مرجع ينضبط لمنهجية علمية متقدمة، وبكفاية تتوافق مع المعايير الأوروبية في مجال تقييم السياسات العمومية. مرجع قائم على أسس علمية صلبة، لا على مجرد تأويلات ظرفية أو اجتهادات فردية.
وزاد قائلا:"لقد اعتدنا، لزمن طويل، التعامل مع السياسات العمومية بمنطق التقديرات العامة والجزافية،اعتدنا الاشتغال وفق مؤشرات شكلية تقليدية تتكرر دون أن يرافقها تحليل لما يحدث فعلا في الميدان، اعتدنا الحديث عن مجموعة من التقديرات هي في الحقيقة تقديرات جزافية قد تمنح وهم الإنجاز، لكنها تخلق في العمق مزايدات على المواطن أكثر مما تقدم له حلولا، ولذلك فإن طرحنا اليوم لمشروع دليل وطني لتقييم الأثر، على طاولة الحوار العمومي، هو في جوهرهرغبة جادةللقطع مع هذه المقاربات الانطباعية، ولتأسيس ثقافة جديدة قوامها الحساب الممنهج والتقييم الموضوعي المبني على الأدلة".
وشدد المتحدث ذاته انه "لم يعد مقبولا اليوم أن تختزل فعالية السياسات العمومية في عدد التقارير أو حجم النفقات أو نسب الإنجاز، بعدما أثبتت التجارب أن هذه المقاربة كثيرا ما تنتج قراءات شكلية ونتائج منفوخة وسرديات مؤسساتية مريحة، لكنها في الغالب بعيدة كل البعد عن واقع المواطن. إنها تقديرات أقل ما يمكن أن يقال في شأنها أنهاقد تمنح وهما بالنجاعة، لكنها في نهاية المطاف تفتح الباب أمام سيل من المزايدات، وبالتالي فأهمية هذا اللقاء لا تكمن في عرض وثيقة جديدة، كما لا تنبني على منهجية جديدة بل تكمن في لحظة تحول نسعى إلى أن نعيشها جميعا، لحظة الانتقال من ثقافة الإنجاز إلى ثقافة الأثر، ومن التقديرات الجزافية، إلى القياس العلمي الذي يرصد فعلية ما تحقق".
بنعليلو أوضح أيضا أنه في زمن تتسارع فيه التحولات الاجتماعية والمؤسساتية، "لم يعد يكفي أن ننجز أو ننفذ، بل أصبح لزاما علينا أن نقيس، وأن نشرح، وأن نثبت للمواطن أن الموارد العمومية تترجم إلى نتائج ملموسة في حياته اليومية، بل أصبح لزاما علينا أن ننخرط في منظور جديد للحكامة العموميةقائم على أن القيمة لا توجد في حجم التدخل، بل في أثره على حياة المواطن، وفيما يضيفه إلى الثقة العامة، وفي قدرته على تغيير السلوكيات وتقليص الكلفة الخفية للفساد".
وقال في هذا الصدد:"نريد من مشروع الدليل الذي نطرحه للنقاش اليوم أن يشكل قطيعة مع النمط التقليدي في التقييم، وأن يؤسس لمنهجية متقدمة تجعل الأثر الحقيقي وحده معيارا للنجاح، فالأثر ليس رقما يدون في التقارير الوصفية، بل هو تحول في السلوك، وتغيير في الممارسات، وانخفاض في كلفة الفساد، وارتفاع في منسوب الثقة العامة، وتحسين في جودة الخدمات العمومية، لذا فإن الانتقال نحو تقييم الأثر هو إعلان عن نقلة منهجيةتنتقل بنا من منطق التدبير الذي يحاسبنا على ما قمنا به من خطوات، إلى ما أحدثناه من تغيير. إنه انتقال من مقاربة تثمن الكم إلى مقاربة تثمن القيمة، ومن سياسة تستعرض ما ينجز إلى سياسة تسائل ما ينفع الناس".
وأفاد أن إعداد مشروع دليل جاء برؤية متقدمة تستند إلى مفاهيم حديثة، مثل: نظرية التغيير؛ سلاسل القيم والنتائج؛ التمييز بين التتبع الإداري والتقييم الفعلي للأثر؛ التقويم المبني على الأدلة؛ الاستعمال المهني للمعطيات والمنصات الرقمية.
واضاف أن هذا يجعل منه مشروعاببعد استراتيجي، يسعى إلى مراقبة السياسات عبرتفكيك منطقها الداخلي: كيف تتشكل؟ كيف تعمل؟ أين تتوقف؟ وكيف يمكن إعادة بنائها لضمان أثر واضح ومقنع وقابل للقياس؟، لبناء اللبنة الأولى في هيكل نظرية تغيير وطنية في مجال مكافحة الفساد، تربط بين المدخلات والعمليات والنتائج والآثار البعيدة المدى، بما يسمح بتوجيه السياسات العمومية نحو ما يحدث فرقا، وليس نحو ما يملأ الفراغ المؤسساتي، مشروع مفتوح للتطوير الجماعي، يتيح للجميع، ولكل الفاعلين العموميين امتلاك أدوات علمية لقياس فعالية السياسات، ويجعل من التقييم مسارا مؤسسيا مستداما لا مجرد مرحلة إدارية محدودة في الزمن.
وأبرز أن المغرب قطع بتوجيهات ملكية خطوات مهمة في بناء منظومة وطنية للنزاهة، لكن تعزيز هذه المكتسبات يتطلب الارتقاء بآليات التقييم إلى مستوى استراتيجي متقدم، يجعل من المعطيات مؤشرا موجها للقرار العمومي، ومن الأثر معيارا أصيلا للحكم على جدوى السياسات العمومية، وبالتالي فالقيمة المضافة الحقيقية لهذا التحول تكمن في إعادة تعريف معنى النجاح في سياسات النزاهة. فالنجاح لم يعد يقاس بعدد النصوص أو تعدد الهيئات والمؤسسات، بل يقاس بقدر ما يلمسه المواطن من تغير في محيطه الإداري والاقتصادي والاجتماعي، وبمدى تراجع الممارسات الفاسدة؛ وبمنسوب الثقة في المؤسسات؛ وبقدرتنا الجماعية على تحديد المخاطر الحقيقية ومواجهتها بشكل استباقي.
وقال:"إننا بصدد بناء منظومة تمنح للمواطن حقا جديدا هو: "الحق في معرفة أثر السياسات التي تتخذ باسمه". وهي خطوة لا تقل أهمية عن باقي الإصلاحات الكبرى التي تعرفها بلادنا، لأنها تنقلنا من منطق "الدولة التي تتطور فقط" إلى منطق "الدولة التي تحدث بتطورها تغييرا إيجابيا في حياة مواطنيها".
إننا نطمح إلى أن يصبح تقييم الأثر جزءا من دورة حياة السياسة العمومية، منذ لحظة التصور، مرورا بالتنفيذ، وصولا إلى التقييم فالتقويم، بما يتيح صياغة سياسات أكثر دقة، وأعلى مردودية، وأوضح أثرا، مشروع الدليل هو أكثر من مجرد وثيقة، إنه بذرة تحول ثقافي ومؤسساتي في مجال النهوض بالنزاهة ومكافحة الفساد، إذا أحسنا احتضانه، سيدخل المغرب إلى جيل جديد من الحكامة، يقوم على الأدلة لا على الانطباعات، وعلى الأثر لا على الجهود، وعلى الصدقية لا على المزايدات".