أحمد الحطاب: لا يعيشون ولا يتركون الآخرين يعيشون

أحمد الحطاب: لا يعيشون ولا يتركون الآخرين يعيشون أحمد الحطاب
عاش/يعيش فعلٌ يدلُّ على الحياة بمعناها البيولوجي، وفي نفس الوقت، فعل "عاش" يدلُّ على الحياة، بمعناها الواسع، أي الحياة الاجتماعية أو الحياة داخلَ المجتمعات. فعندما نقول، مثلاً، "فلان عاش حياةً طيبة"، فالمقصود هو أن هذا الفلان قضى حياةً فيها ما يسرُّ وما يُفرِح وما يُسعِد.
 
وعندما عنوَنتُ هذه المقالة ب"لا يعيشون ولا يتركون الآخرين يعيشون"، فالمقصود هو أن فئةً من الناس، بصفة عامة، لا يعيشون الحياةَ بمعناها الواسع، وفي نفس الوقت، يقومون بالتَّشويشِ على حياة الآخرين. وهذا النوع من البشر موجودٌ بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي. إذ لا يهدأ لهم بالُ إلا إذا نغَّصوا حياةَ الآخرين. والتنغيص هو إدخال نوعٍ من الإزعاج أو التَّكدير في حياة الآخر أو مَنعُ حدوث ما يُحِب هذا الآخر أن يحدث. وبصفة عامة، التَّنغيصُ هو تَعكِيرُ صَفوَ الأشياء أو إفساد ما يجعلها مفرِحة أو مَنع حدوث ما يحبه الآخرون… فما هي الوسائل التي يلجأ لها المُنغِّصون لتكدير حياة الآخرين؟
 
الوسائل التي يلجأ لها المُنغِّصون لتكدير حياةَ الآخرين، كثيرة. سأكتفي، في هذه المقالة، بذكر ما هو مستَعملٌ بكثرة في وسائل التواصل الاجتماعي، أي السب والشتم les injures والنميمة la médisance والتشهير la diffamation والدخول فيما لا يعني المُنغِّصين l'indiscrétion.
 
لكنني، بالنسبة لهذه المقالة، لن أتطرَّق لهذا الموضوع الدائِع صيتُه في وسائل التواصل الاجتماعي. بل موضوعُ هذه المقالة، وهو، كذلك، موجودٌ بكثرة في وسائل التواصل الاجتماعي، ألا وهو فئة المُتدينين المتطرفين الذين هم مستعدُّون لتكفير الآخرين prononcer l'apostasie des autres، بمجرد أن يُخالفونهم في الرأي أو في المعتقد. فما هو التَّكفيرُ؟ وهل يجوز للمسلمِ أن يُكفِّرَ مُسلِما آخرَ لأنه، فقط، خالفَه في الرأي أو في المعتقد؟
 
جوابا على السؤال الأول، أي "فما هو التَّكفير"؟ التَّكفير هو فعلٌ صادرٌ عن مسلمٍ أول يُرادُ منه نِسبةُ مسلمٍ ثاني إلى الكفر. والكُفر هو أن يكونَ شخصٌ ما على علم بأن الإسلامَ هو دين الحق. لكن هذا الشخص يُخفي هذا الحق أو يتستَّر عليه. وهذا الكفر هو ما واجهَه الأنبياءُ والرُّسلُ، منذ نوحٍ، عليه السلام، إلى آخِرِ الرُّسلِ والأنبياء، محمد (ص).
 
ولهذا، فهناك فرقٌ بين الكفر والشرك. الكفر هو معرفة الحقيقية والتستُّر عليها. بينما الشرك، فهو أن يُضيفَ شخصٌ ما، في عبادته، شريكاً يعيده من دون الله. وهذا هو ما كان يفعله المشركون منذ نوح، عليه السلام، إلى آخر الرسل والأنبياء، محمد (ص). وهو، كذلك، ما يفعله البوذيون les bouddhistes أو الهندوسيون les hindouistes أو الأرواحيون les animistes… إلى يومنا هذا.
 
وجواباً على السؤال الثاني، أي "وهل يجوز للمسلمِ أن يُكفِّرَ مُسلِما آخرَ لأنه، فقط، خالفَه في الرأي" أو في المُعتقد؟، أقول إن التَّكفيرَ يتنافى أو يتناقض مع ما أراده الله، سبحانه وتعالى، من حرية، أي عندما خلق اللهُ، عزَّ وجل، الكائن البشري، خلقه حرّا وبيَّن له طريق الخير وطريق الشر وترَكَ له حريةَ الاختيارَ في تبنِّي أحد الطريقين. بل التَّكفبر يتنافى مع آياتٍ من القرآن الكريم، أذكر من بينها، على الخصوص: "لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا… (البقرة، 286).
 
في هذه الآية الكريمة، يقول، سبحانه وتعالى، :لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا…"، ٠أي إن الله، عزَّ وجلَّ، لا يُجبِر الناسََ على ما ليس لهم طاقة لتَحمُّلٍ أو لفعلِ الأشياء. وفعل الأشياء لا يمكِن أن يتِمَّ بدون تفكير مُسبق. فكيف يُكفَّر شخصٌ ما اختار، عن سابق معرفة، أن يخالفَ المسلمَ المتشدِّد، في الرأي أو في العقيدة، وهو يعرف، تمامَ المعرفة، أن هذا الرأي والعقيدة يستحقان الانتقاد؟
 
وما يُؤكِّد أن الإنسانَ حرٌّ في اختياراتِه، هو أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يُشيرُ لهذه الحرية في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم، أذكر من بينها، على الخصوص، ما يلي :
 
1."إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" (الإنسان، 3).
 
"السَّبِيلَ"، في هذه الآية الكريمة، هو ما بيَّنه الله، سبحانه وتعالى، في آيات أخرى، من إيمانٍ وكفرٍ أو من خيرٍ وشرٍّ. والآية رقم 3 من سورة الإنسان، واضِحة، وضوحََ الشمس، أي أن الإنسانَ له حرية الاختيار. فإذا اختار طريق الخير (إِمَّا شَاكِرًا)، وإذا اختار طريقَ الشر (وَإِمَّا كَفُورًا)، ففي كلتَي الحالتين، فهو مسؤول عن اختياره. وهذه المسؤولية واضحة، وضوحَ الشمس، في الآية رقم 286 من سورة البقرة، المشار إليها أعلاه، حين قال، سبحانه وتعالى "...لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ…"
 
2."وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِيقُهَا" (الكهف، 29).
 
فهل هناك وضوحٌ أكثر من هذا الذي تُشير له هذه الآية الكريمة؟ أي أن حرية اختيار أحد الطريقين مكفولة للناس جميعآ، لكن مع تحمُّل مسؤولية هذا الاختيار.
 
وما يؤكِّد هذه الحرية في الاختيار، هو ما قاله، سبحانه وتعالى، للرسول (ص)، الذي كلفه الله، سبحانه وتعالى، بعد أنبياء ورُسُل كُثُر، بنشر رسالة الإسلام، في الآية رقم 99 من سورة يونس : "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ".
 
في هذه الآية الكريمة، يبدو أن الرسولَ (ص) أجبر أو استعمل الإكراهَ في حق بعض الناس ليدخلوا الإسلامَ، لكنه، سبحانه وتعالى، لامَه على هذا الإكراهِ، أي بعبارة أخرى، أرادَه، عزَّ وجلَّ، أن يتصرَّفَ كبشير وندير، أي يبلِّغَ للناس ما ينزل عليه من وحي ويترك لهم الفرصة لاختيار ما يُناسبهم من طريق.
 
وما أثارَ انتباهي، في هذه الآية، هو أن اللهَ، سبحانه وتعالى، استعمل كلمتَي "النَّاسَ" و"مُؤْمِنِينَ". "النَّاسَ" تعني جميع الناس الذين عايشوا الرسول (ص). و"مُؤْمِنِينَ" تعني الذين آمنوا بوُجودِ الله، سبحانه وتعالى، وبرسالة الإسلام، التي أنزلها على الأنبياء والرُّسًل، منذ نوح، عليه السلام، إلى آخِرِهم، محمد (ص).
 
وفي الختام وكما سبق الذكرُ أعلاه، ما أقصده من عنوانِ هذه المقالة، أي "لا يعيشون ولا يتركون الآخرين يعيشون"، هو أن المتديِّنين المُتشدِّدين (المُتطرِّفين)، عوضَ أن ينشغلوا بفهمِِ الدين فهماً يليق بروح العصر، فإنهم يحشرون أنفسَهم فيما لا يعنيهم، أي أن الآخرين لهم حرية اختيار أحد الطريقين، وبالتالي، فإنهم يكفرون بكل الآيات المًشار إليها أعلاه ويتشبثون بالأحاديث التي هي ظنِّية التبوث، بينما هذه الآيات هي قطعية التبوث. ولهذا، فإنهم، عوض أن يعيشوا حياةً مُطمئنة، بفهمهم للدين حسب روح العصر، فإنهم يُنغِّصون حياةَ الآخرين بتشدُّدِهم وتطرُّفِهم.