لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية يمكن النظر إليها من زاوية الإعجاب أو الفضول. لقد تحوّل في السنوات الأخيرة إلى قوة ناعمة صامتة، تتسلل إلى تفاصيل حياتنا اليومية، لكنها تدخل أيضًا—وبخطوات ثابتة—إلى أحد أكثر ميادين البشر حساسية وتعقيدًا: عالم السياسة.
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس كيف سيؤثر الذكاء الاصطناعي في السياسة، بل إلى أي حد سيُعاد تشكيل السياسة بالكامل تحت ظله؟
سياسيون يتحركون تحت عين الخوارزميات
في السابق، كان السياسي يعتمد على مستشاريه، خبرته الشخصية، ونبض الشارع. أمّا اليوم، فهناك “مستشار جديد” لا ينام ولا يخطئ في القياس: الذكاء الاصطناعي.
خوارزميات قادرة على تحليل ملايين التغريدات، استطلاعات رأي لحظية، ونماذج تتنبأ بسلوك الناخب بناءً على آلاف المتغيرات.
لكن هنا تكمن المفارقة:
السياسي الذي يمتلك هذه الأدوات يصبح أقرب إلى “مصمّم رأي عام” منه إلى ممثل لنبض الناس.
يُفترض أن السياسة تعبير عن إرادة جماعية، لا عملية ضبط دقيق لسلوك الجماهير كما تفعل شركات التسويق.
الانتخابات… ذكاء أم ذكاء مضاد؟
الحملات الانتخابية وحدها أصبحت مختبرًا مفتوحًا للذكاء الاصطناعي.
رسائل مُفصّلة لكل شخص حسب ميوله، فيديوهات مصنوعة بالكامل بالتقنيات التوليدية، وقدرة على قراءة ما يفكر به الناخب حتى قبل أن يفصح عنه.
هل يزيد هذا الوعي السياسي؟ ربما.
لكن هل يجعل الناخب هدفًا سهلًا للتلاعب النفسي؟ بالتأكيد.
هنا نصل إلى جوهر الأزمة:
من يمتلك الذكاء الاصطناعي يمتلك القدرة على التأثير، ومن لا يمتلكه يصبح متلقيًا فقط.
الدولة الذكية… أم الدولة المراقِبة؟
لا أحد ينكر أن الذكاء الاصطناعي يحدث ثورة في الإدارة الحكومية:
خدمات أسرع، مكافحة فساد أكثر دقة، إدارة أزمات أكثر كفاءة.
لكن الوجه الآخر للعملة ليس بنفس البريق.
فالخوارزميات التي تكشف الفساد قادرة أيضًا على تتبع كل حركة يقوم بها المواطن.
والكاميرات الذكية التي تحافظ على الأمن قد تتحول بسهولة إلى أداة رقابة خانقة.
والمنصات الحكومية التي تقدم خدمات رقمية تبدو بديهية اليوم، لكنها قد تصبح غدًا بوابة لقياس الولاء السياسي.
هنا يصبح السؤال الأخلاقي أكثر حضورًا من السؤال التقني.
أزمة ثقة في زمن الآلة
أخطر ما يواجه السياسة في عصر الذكاء الاصطناعي هو انهيار الثقة.
كيف يمكن لمواطن أن يصدق ما يراه، وهو يعرف أن مقطع الفيديو قد يكون مزيفًا بالكامل؟
كيف يميز الحقيقة من المحتوى المصنوع بخوارزمية؟
وكيف يمكن للديمقراطية أن تستمر إذا فقدت الشعوب القدرة على الاتفاق على “ما هو حقيقي” أساسًا؟
سياسة بلا ثقة ليست سياسة… إنها فوضى ببطاقة تعريف أنيقة.
المستقبل… توازن لا بد منه
على الرغم من كل التوجسات، فإن الذكاء الاصطناعي ليس قدرًا مظلمًا ولا خلاصًا مطلقًا.
إنه ببساطة أداة قوية، ومثل كل أداة تحتاج إلى قواعد، ضوابط، ورقابة ديمقراطية.
السياسة في عصر الذكاء الاصطناعي يجب ألا تتحول إلى لعبة خوارزميات، ولا يجب أن تبقى أسيرة الأساليب التقليدية.
المستقبل الأكثر أمانًا هو ذاك الذي يجمع بين حكمة الإنسان وقدرات الآلة، دون أن يطغى أحدهما على الآخر.
ختاما، المعادلة اليوم لم تعد “السياسة في عهد الذكاء الاصطناعي”، بل السياسة في مواجهة الذكاء الاصطناعي.
والمجتمعات التي تنجح في إدارة هذا التحدي بحكمة ستكون هي من ترسم المستقبل، لا من يتفرج عليه.
هل نحن مستعدون؟
الجواب لم يُكتب بعد… لكنه بالتأكيد لن يُكتب دون وعي سياسي يواكب حجم التحول.
د حنان أتركين
عضو مجلس النواب