مصطفى فوزي: إشكالات مناطق الواحات والجبال والمقترحات العملية لتحقيق العدالة المجالية.. آفاق جديدة للتنمية

مصطفى فوزي: إشكالات مناطق الواحات والجبال والمقترحات العملية لتحقيق العدالة المجالية.. آفاق جديدة للتنمية مصطفى فوزي
على هامش أشغال الورشة الاستكشافية المنظمة، يوم 19 نونبر 2025 بالرباط، من طرف المجلس الوطني لحقوق الإنسان حول موضوع: "العدالة المجالية: فرص وممكنات من خلال ترصيد خصوصيات المجال (الجبل – الواحات – الساحل)"، والتي ترأستها أمينة بوعياش، رئيسة المجلس، بحضور نخبة من الفاعلين والحقوقيين على الصعيد الوطني.
تنشر
"أنفاس بريس" مداخلة الدكتور مصطفى فوزي، المدير الترابي للوكالة الوطنية لتنمية مناطق الواحات وشجر الأركان (ANDZOA) بزاكورة، الذي شارك في أشغال هذه الورشة حول موضوع "إشكالات مناطق الواحات والجبال والمقترحات العملية لتحقيق العدالة المجالية في هذا المجال - آفاق جديدة للتنمية".
 
  1. إشكالات تنمية المجالات الواحية في تحقيق العدالة المجالية

تُعدّ المجالات الواحية من أكثر المجالات هشاشة بيئياً واقتصادياً واجتماعياً، ورغم قيمتها البيئية والثقافية ووزنها التاريخي في النسيج الوطني وحجم الاستثمارات العمومية التي استفادت منها، فإنها لا تزال تعيش اختلالاً حقيقياً في توزيع الاستثمارات والخدمات مقارنة بالمجالات الساحلية أو الحضرية. ويتجلى هذا الاختلال في عدة مستويات:

  1. ضعف البنية التحتية والخدمات الأساسية في مناطق الواحات والجبال:

تواجه المناطق الواحية فجوة واضحة مقارنة بالمجالات الأخرى في: شبكات الطرق والنقل؛ الماء الصالح للشرب؛ الصحة والتعليم؛ الخدمات الرقمية والاتصالات.

  1. الإكراهات الرقمية والمعرفية

تحدّث عالم المستقبليات الدكتور المهدي المنجرة عن الثورتين الزراعية والصناعية اللتين اضاع المغرب فرص اللحاق بهما في الماضي، وأكد في تحليلاته الاستشرافية أنّ المغرب ما يزال قادراً على تدارك هذا التأخر من خلال الثورة المعرفية والرقمية. فتبنّي اقتصاد المعرفة وتطوير القدرات العلمية والتكنولوجية يمثّل اليوم المدخل الأساسي لتعزيز التنافسية وتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية ومستدامة، شريطة الاستثمار في التعليم، والبحث العلمي، والابتكار، ورقمنة الإدارة والقطاعات الإنتاجية.

الا ان في هذا العصر تظل مناطق الواحات والجبال خارج خرائط التحول الرقمي. فالولوج للأنترنت عالي الصبيب ضعيف او منعدم في كثير من المناطق. ما يحرم الشباب من فرص التعلم عن بعد، التجارة الإلكترونية والعمل في الاقتصاد الرقمي. كما ان ضعف التكنولوجيا يكرس العزلة، ويجعل هذه المناطق عرضة للمزيد من التهميش في غياب مراكز بحثية، مما يجعل الأبحاث حول الموارد المحلية والابتكار والزراعة الواحية والجبلية أو الطاقة المتجددة شبه غائبة. هذا الغياب يحرم السياسات التنموية من الأساس العلمي الضروري لتصميم حلول مستدامة.

  1. قصور أنظمة التحفيز للاستثمار عن مواكبة خصوصية المجالات الهشة

تُطرح اليوم عدة إشكالات مرتبطة بـ عدم ملاءمة التحفيزات (الضريبية والعقارية والإدارية) مع خصوصية كل مجال، إذ غالباً ما تُصمم لخدمة المدن الكبرى، مما يُقصي المناطق الصغيرة والواحات والمجالات القروية.

ويتجلى ذلك بوضوح في  :

- شهد المغرب منذ سنة 1995 اعتماد ميثاق الاستثمار الذي جاء بمجموعة من المقتضيات التحفيزية العامة حسب كل قطاع، إضافة إلى تعدد الأنظمة والبرامج القطاعية الموازية التي حاولت تأطير الاستثمار وفق مقاربات مختلفة. وفي المقابل، ورغم أهمية ميثاق الاستثمار الجديد لسنة 2022 باعتباره إطاراً وطنياً موحداً وأكثر طموحاً، فإنه لا يأخذ بشكل كافٍ الخصوصيات القطاعية والمجالية بعين الاعتبار، ولا يستجيب بما فيه الكفاية لواقع بعض المجالات الحساسة مثل المناطق الواحية والمناطق الجبلية التي تتطلب تمييزاً إيجابياً وحوافز موجهة تراعي هشاشتها البيئية، بنيتها الاقتصادية، محدودية مواردها الطبيعية، وإكراهات بنيتها التحتية.

- ميثاق الاستثمار الذي انطلق سنة 2022 ويهم المشاريع الاستثمارية التي تتجاوز 50 مليون درهم للاستفادة من الدعم. الشي الذي يقصي المقاولات المتوسطة والصغيرة جدا (تمثل 93 % من مجموع المقاولات بالمغرب)

- برنامج الدعم الجديد للمقاولات الصغيرة والمتوسطة الذي أُطلق بتاريخ 11 نونبر 2025 بالرشيدية. فشروط الاستفادة منه – وخاصة شرط الاستثمار الأدنى المحدد في مليون درهم – تُقصي فعلياً المقاولات في الواحات، والتي لا تتجاوز أغلب مشاريعها 300 ألف درهم،

ما يُبعد هذه الأقاليم عن دائرة الدعم ويكرّس الفوارق المجالية.

  1. القطاع البنكي:

 فيما يخص القطاع البنكي، يلاحظ ضعف حضوره في تحفيز الاستثمار المحلي، سواء عبر صعوبة الولوج إلى التمويل، أو غياب آليات مواكبة حقيقية للمقاولات الصغيرة والناشئة، أو محدودية العروض المالية المخصصة للمشاريع ذات الطابع الترابي. هذا الوضع ينعكس سلباً على دينامية الاستثمار والتنمية الاقتصادية، ويحدّ من قدرة الفاعلين المحليين—خاصة الشباب والنساء—على تأسيس مشاريع مستدامة.

  1. مغاربة العالم

يمثل مغاربة العالم طاقة شبابية مبدعة ومؤهلة في مختلف التخصصات، خاصة المنحدرين من المجالات الواحية والجبلية. غير أن هذه الطاقات تظل غير مستثمرة بالشكل الكافي لخدمة الاقتصاد المحلي، ولا توجد آليات واضحة لتوجيه مهاراتهم وخبراتهم نحو مشاريع تنموية منتِجة. ورغم الارتفاع السنوي في تحويلاتهم المالية المهمة، فإن الجزء الأكبر منها يتجه نحو استثمارات غير مُولِّدة للقيمة المضافة، مثل العقار والمقاهي والمطاعم، مما يحدّ من أثرها على التنمية الاقتصادية الحقيقية بالمناطق الأصلية.

  1. اختلالات السياسات العمومية في مجال التهيئة العمرانية

ركزت سياسات التهيئة في العالم القروي على إنشاء مراكز صاعدة هجينة خارج المجال الواحي، ما أدى إلى:

- خلق مراكز عمرانية جديدة غير منسجمة مع الخصوصيات الواحية؛

- استثمارات مهمة في هاته المراكز على حساب القصور،

- تهميش الهوية المعمارية والتراثية للواحة؛

-استنزاف الموارد المائية والبصرية والجمالية للواحات.

أقرت وزيرة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، بفشل برنامج المساعدة المعمارية والتقنية المجانية بالعالم القروي (اجتماع لجنة الداخلية والجماعات الترابية والسكنى وسياسة المدينة والشؤون الإدارية بمجلس النواب، اليوم الأربعاء 5 نونبر 2025، لدراسة مشروع الميزانية الفرعية لوزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة برسم السنة المالية 2026)

  1. تعقيد المساطر الإدارية وضعف الولوج إلى العقار

تتفاقم الفوارق بسبب:

- بطء ورقمنة محدودة لمساطر الترخيص؛

- الإكراهات المرتبطة بالعقار المشاع (طبيعة العقار بالمناطق الواحية يطرح إشكالية كبيرة في التعبئة : الجموع، الدولة و الحبوس؛

- ضعف الولوج إلى عقار مهيكل بالنسبة للاستثمار (مناطق الأنشطة الاقتصادية والصناعية) ؛

-عدم وجود إطار قانوني خاص يعالج خصوصيات التعمير في الواحات.

  1. إشكالية الحكامة والتدبير في المجالات الواحية
  1. القوى الحية والنخب المحلية

القوى الحية والنخب المحلية ما تزال، في جزء واسع منها، حبيسة لمنطق العصبيات القبلية والانتماءات الضيقة، مما يحدّ من قدرتها على الانخراط الفعّال في الدينامية التنموية المحلية.

هذا الوضع ينعكس سلبًا على إمكانيات المبادرة، ويُضعف فرص إنتاج نخب جديدة تمتلك رؤية حديثة، وقادرة على المساهمة البناءة في بلورة مشاريع تنموية مندمجة تستجيب لأولويات الساكنة وتحديات المجال. كما يؤدي هذا الإطار التقليدي إلى محدودية التنسيق بين الفاعلين المحليين، وعرقلة إرساء حكامة تشاركية قائمة على الكفاءة والمسؤولية بدل الولاءات والانتماءات الضيقة.

  1. الفساد نزيف اقتصادي يقوض التنمية

كشفت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة في المغرب في عرضها الأخير أمام البرلمان حول مشروع ميزانيتها لعام 2026 (5 نونبر 2025) أمام لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب،  ان خسائر الناتج المحلي الإجمالي السنوي تُقدّر بنحو 6% بسبب الفساد وسوء الإدارة. تشمل هذه الخسائر مليارات الدراهم تُستنزف عبر الرشاوى والصفقات غير النزيهة والتلاعبات الإدارية وسوء إدارة الموارد العمومية. في مناطق الندرة يحس المواطن بهذه الاختلالات.

تستلزم العدالة المجالية رؤية ترابية جديدة تعترف بخصوصية الواحات وتُوجه الاستثمارات بناءً على حاجياتها وهشاشتها، عبر مجموعة من التدابير العملية موزعة على أربعة مستويات:

  1. البنية التحتية والخدمات الأساسية

التمييز الإيجابي في الميزانيات القطاعية:

  1. الاقتصاد المحلي والتحفيزات الاستثمارية
  1. التعمير وإعداد التراب
  1. الحكامة والمعطيات الترابية
  1. تعزيز دور النخب المحلية والقوى الحية ومحاربة الفساد

تعزيز دور النخب المحلية والقوى الحية يتطلب الانتقال من منطق الانتماءات الضيقة إلى منطق المصلحة العامة والتنمية المشتركة. ويمكن تحقيق ذلك عبر إرساء آليات تشاركية جديدة تُشرك مختلف الفاعلين المحليين—من منتخبين، وفاعلين اقتصاديين، وجمعيات، وشباب، ونساء—في بلورة وتتبع المشاريع التنموية، مع توفير برامج للتكوين وبناء القدرات في مجالات القيادة المحلية، والحكامة الترابية، والتخطيط، والتواصل. كما يجب وضع منصات للحوار المحلي تُسهِم في تجاوز الانقسامات القبلية وترسيخ ثقافة التعاون والعمل المشترك من أجل تنمية مستدامة وشاملة للمناطق الواحية.

الإسراع في تنزيل مضامين الاستراتيجية الوطنية الجديدة للفترة 2025–2030 لمحاربة الفساد التي اعدتها الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، والتي ترتكز على ثلاث محاور رئيسية لإحداث تحول إداري شامل:

  1. آفاق جديدة للتنمية
  1. الانتقال نحو الاقتصاد الأخضر

إن التحديات البيئية والاقتصادية التي تواجه المناطق الواحية تجعل من الاقتصاد الأخضر خيارا استراتيجيا لابد منه. فالاعتماد على أنشطة فلاحية تقليدية غير مستدامة غير كاف في ظل التغير المناخي، مما يفرض تبني أنماط إنتاج صديقة للبيئة، تراعي الاقتصاد في استهلاك الماء والطاقة.

يمكن تطوير الزراعة البيولوجية كقطاع واعد قادر على جلب الاستثمارات المحلية والأجنبية، خاصة المنتوجات المجالية المتنوعة كالزعفران، التمر، زيت الأركان...، نظرا للطلب المتزايد على هذه المنتوجات في الأسواق العالمية، إذا ما تم تسويقها بعلامات الجودة والشهادات الدولية.

  1. الطاقات المتجددة كرافعة للتنمية خصوصا الطاقة الشمسية والريحية

المنطقة مشمسة على مدار السنة مما يجعلها مثالية لإنشاء محطات شمسية صغيرة ومتوسطة، قادرة على تزويد القرى بالكهرباء بأسعار منخفضة. كما ان المرتفعات الجبلية يمكن ان تستضيف محطات ريحية لتوليد الطاقة.

 ادماج هذه المشاري في نسيج الاقتصاد المحلي سيضمن تقليص التبعية للطاقات الأحفورية، ويخلق فرص عمل جديدة في مجال التركيب والصيانة والتسيير. (تقرير البنك الدولي، 2019)

  1. تمكين المرأة الواحية والجبلية

أثبتت التجارب أن التعاونيات النسائية، خصوصا في انتاج زيت الأركان والزعفران، ساهمت في تحسين مستوى العيش وإعطاء النساء مكانة اجتماعية جديدة. مما يبرهن أن إدماج المرأة في التنمية ليس فقط مطلبا حقوقيا، بل هو ضرورة اقتصادية.

  1. تحسين منظومة تسويق منتجات التعاونيات

للنهوض بمنظومة التسويق، باعتبارها أحد أهم الإكراهات البنيوية التي تعيق تطور الإنتاج المحلي في المجالات الواحية والجبلية، يُستحسن أن تعتمد الدولة آلية عملية وفعّالة تقوم على الشراء المباشر من التعاونيات. ترتكز هذه الآلية على اقتناء كافة المنتجات القابلة للتسويق والتي تستجيب لمعايير الجودة، وذلك من أجل ضمان تصريف الإنتاج المحلي بشكل منتظم ومستدام.

وتتولى الدولة، عبر مؤسساتها المتخصصة أو من خلال شراكات مع القطاع الخاص، عملية توزيع وتسويق هذه المنتجات على المستويين الوطني والدولي، مستفيدة من قدراتها اللوجستيكية والتسويقية ومن شبكاتها التجارية الواسعة. ويسمح هذا التوجه بفك العزلة عن التعاونيات الصغيرة، ورفع قدرتها التنافسية، وتثمين منتوجاتها.

  1. الاستثمار في تعميم الانترنت عالي الصبيب وتوفير التكوين الرقمي للنساء والشباب

الاستثمار في تعميم الانترنت عالي الصبيب وتوفير التكوين الرقمي للنساء والشباب، يمكن أن يحول هذه المناطق إلى فضاءات منفتحة على الاقتصاد العالمي. فالتجارة الإلكترونية مثلا، تمكن التعاونيات من تسويق منتجاتها مباشرة للمستهلكين دون وسطاء. بينما التعليم عن بعد يتيح للأطفال والشباب الولوج الى موارد معرفية لم تكن متاحة من قبل. (Debackere et Aqouh, 2021)

  1. تطوير البحث العلمي وتاهيل البنيات التحتية المتعلقة به

مثال إقليم زاكورة : مركز الأبحاث الفلاحية بزاكورة، التابع للمعهد الوطني للبحث الزراعي، كان في العقود الماضية منارة علمية حقيقية وخزاناً لإنتاج أطر وطنية مرموقة ساهمت في تطوير البحث الزراعي بالمغرب. ورغم هذا الرصيد العلمي المهم، فإن هذا المركز يعيش اليوم حالة من التعطّل ولا يؤدي أي دور فعلي، في وقت تُعد فيه المجالات الواحية في أمسّ الحاجة إلى البحث العلمي والابتكار لمواجهة التحديات المتسارعة التي يعرفها القطاع الفلاحي، خصوصاً فيما يتعلق بندرة المياه، تدهور واحات النخيل، تغيّر المناخ، وانتشار الأمراض والآفات.

إن إعادة تأهيل هذا المركز وتفعيله يُعتبر ضرورة استراتيجية، لأن المجالات الواحية لا يمكنها مواصلة الصمود دون دعم علمي وتقني مستمر. فالمعرفة هي اليوم المدخل الأساسي لأي إصلاح أو تنمية مستدامة في هذه المناطق.

خلاصة

تحقيق العدالة المجالية في الواحات ليس مجرد إعادة توزيع للاستثمارات، بل هو مقاربة ترابية شمولية تُثمّن الخصوصيات، وتواجه الهشاشة، وتضمن تنمية عادلة تُعزز صمود هذه المجالات الفريدة وتراثها الطبيعي والثقافي.