في اللحظة التي تدعي فيها الحكومة أنها بصدد إحداث «طفرة غير مسبوقة» في قانون المالية لسنة 2026، تؤكد المعارضة أنه قانون منفصل عن حرارة الانتظارات الاجتماعية. ذلك أن الوثيقة المالية، في كل الدول العريقة ديمقراطية، تشكل امتدادا للوعود الانتخابية، وتجسيدا واضحا لانتظارات الناخبين الذين صوتوا على هذه الأغلبية أو تلك، عوض أن تأتي في صيغة تقنية وجافة تشتغل أساسا بمنطق الأرقام والمؤشرات والاستبيانات، لا بمنطق الأثر الفعلي على حياة المواطنين، ولا بمنطق إيجاد الحلول للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية.
فالنقاش الذي يفترض أن يكون عموميا واسعا، وأن يمتد خارج مبنى البرلمان، انزاح نحو فضاء ضيق، مغلق بين الحكومة والبرلمان، وكأن الأمر مجرد تمرين بيرقراطي محاسبي داخلي لا يعني المواطنين بشكل مباشر، بل يعني الحكومة والنواب والمستشارين، أغلبيةً ومعارضةً. كما أن وسائل الإعلام الوطنية نفسها، سواء تلك التابعة للقطب العمومي أو الخاصة، والتي يُفترض أن تخلق صدى ونقاشا عاما حول رهانات السنة المالية وأن تفتح قنواتها وإذاعتها ومواقعها لاحتضان هذا النقاش وتبسيطه وتفسيره والدفاع عنه وفسح المجال للمعارضة والخبراء الاقتصاديين من أجل نقده وإظهار مكامن قوته وضعفه وتأثيرات بنوده وإجراءاته على الحياة العامة، تكاد تغيب عن المشهد السياسي، مكتفية بمتابعة باردة لا تتجاوز إعادة ما يُعلن رسميا، وأحيانا تغطيه بإيقاع حاد من التصفيق، أو «البروباغندا» التي لا ترقى إلى تحليل الخيارات الكبرى ولا مساءلة منطق الأولويات، مما حول قانون المالية، إلى حصان خاسر يتحرك في دائرة تقنية مغلقة، بينما ينتظر المجتمع وثيقة مالية تُعيد الثقة، وتستجيب للتحولات الكبرى التي تعيشها البلاد. إذ لا يعثر المواطن بين الأرقام على أثر واضح لتحولات هيكلية في مجالات الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، وهي المجالات التي شكّلت جوهر الوعود الحكومية، وأساس النموذج التنموي الجديد الذي تعاقد حوله المغاربة.
ولأن الانتظارات الاجتماعية اليوم أصبحت مفصلية بفعل تراكم الإحباط وغلاء المعيشة وتآكل القدرة الشرائية وتفاقم البطالة، بدا قانون المالية الجديد كأنه لا يسمع دقات الواقع. ذلك أن الأرقام، التي تأتي بها الحكومة، تُبنى على فرضيات متفائلة، بينما يشعر المواطن بأن تلك الفرضيات لا تعكس ما يعيشه يوميا، كما أنها لا تنعكس على ثقل المصاريف التي يواجهها كلما توجه لشراء المواد الغذائية الأساسية.
وإذا كان النموذج التنموي الجديد قد وضع تصورا متكاملا للقطائع التي ينبغي إحداثها، من إصلاح ضريبي شجاع، وإعادة ترتيب سلم الأولويات القطاعية، وإعادة تعريف دور الدولة في التوزيع العادل للثروة، فإن قانون المالية 2026 لا يبدو مستوعبًا لهذه الروح، إذ يميل كل الميل إلى الاستمرارية في الحلول الظرفية أكثر مما ينحو نحو التحول.
هنا يطرح السؤال نفسه بإلحاح:
هل يمكن لدولة تعلن مشروعا اجتماعيا كبيرا أن تستمر في إنتاج قوانين مالية ذات منطق تحفظي، أقرب إلى التكيّف منها إلى البناء؟ وهل يمكن للمواطن أن يثق في مسار إصلاحي لا ينعكس في الوثيقة الأكثر تعبيرا عن إرادة الدولة، أي الوثيقة المالية السنوية؟
إن الأزمة ليست فقط في مضمون الأرقام، ذلك أنه بقدر غياب الإحساس بأن هذه الأرقام تعني أحدا خارج قبة البرلمان، فإن تضييق الخناق على النقاش السياسي لقانون المالية يكشف جملة من الأعطاب، نجملها في يلي:
أولا : انفصال القانون عن المواطن «المعني الأول بهذا القانون». فالأرقام تُقَدَّم وكأنها مكتفية بذاتها ولا تحتاج إلى شرح وتبسيط، ولا إلى ربط بأثرها الاجتماعي أو بقدرتها على تغيير الحياة اليومية للناس. وما يزيد الطين بلة هو أن النقاش الإعلامي باهت. كما أن النقاش البرلماني محصور بين لجان تقنية، ويكاد يغيب حتى داخل الأحزاب المشكلة للحكومة أو الأغلبية.
ثانيا: غياب الفلسفة الاجتماعية داخل بنية القانون؛ ذلك أنه رغم الحديث المستمر عن الدولة الاجتماعية. فالإصلاح الضريبي، الذي يُفترض أنه قلب هذه الدولة، بقي رهينًا للمنطق القديم: عدم فرض ضريبة على الثروة، استمرار جعل الأجراء يمولون الجزء الأكبر من الضريبة على الدخل، ارتفاع الضرائب غير المباشرة، استمرار الرسوم العالية على المحروقات، وترك التهرب الضريبي يبتلع مليارات الدراهم دون معالجة مؤسساتية صارمة.
ثالثا :ضعف أثر القانون المالي على سوق الشغل. فبين 2022 و2024، فقد المغرب 99 ألف منصب صاف، وخسر القطاع الفلاحي وحده 554 ألف منصب، في وقت ارتفعت البطالة إلى 13.3% وتجاوزت 38% بين الشباب. هذه المؤشرات تعاكس على نحو واضح الخطاب الرسمي حول الدينامية الاقتصادية، وتفضح فشل الحكومة في جذب 550 مليار درهم من الاستثمارات التي كان يفترض أن تخلق 500 ألف منصب شغل.
رابعا: أزمة الفلاحة، حيث كشفت النقاشات البرلمانية الأخيرة حجم اختلالاتها. كما أن تعليق الفشل على الجفاف لم يعد مجديا أو مقنع لأي كان ما دام الجفاف أصبح معطى هيكليا منذ عقود «كما سبق للمندوبية السامية أن أكدت في الكثير من التقارير»، ولذلك كان ينبغي للسياسات الفلاحية أن تتغير بدل تكرار النموذج نفسه. وهذا ما يؤكده الواقع الميداني: سدود بنسبة ملء لا تتجاوز 30.8%، أسعار بذور وأعلاف ملتهبة، فوضى سعرية غير مفهومة، فلاحون باعوا بذورهم لصوناكوس ولم يتسلموا مستحقاتهم منذ سنة، دعم لا يصل إلى الفلاح الصغير، ولوبيات تتحكم في السلاسل البيمهنية، و«فراقشية» يقررون سعر السوق، ويسجلون كل يوم هزيمة الأمن الغذائي، بدعم «مادي معتبر» من رئيس الحكومة.
خامسا: الاختناق الذي تعيشه المقاولات الصغيرة جدا، العمود الفقري للنسيج الإنتاجي. إذ يتم التعامل مع هذا النوع من المقاولات باعتباره «خطرا قائما» يهدد ربحية الأبناك التي تفرض ضمانات تفوق ثلاثة أضعاف قيمة القرض، ثم تضيف فائدة مرتفعة، وتزيد الدولة الضغط عليها برفع الضريبة من 10% إلى 17.5% وصولًا إلى 20% في 2026.وما يعني أن هذا القانون يجهض دينامية النمو، ويجعله دائما معرضا للتراجع.
سادسا :تراجع قدرة الأسر على الصمود، إذ ارتفع مؤشر أسعار الاستهلاك من 103.9 سنة 2021 إلى 118.7 سنة 2024، بينما بلغت مديونية الأسر 427 مليار درهم، وارتفعت القروض المتعثرة إلى 44.5 مليار درهم، يمثل الموظفون أكثر من 40% منها. وهذا يعني أن قانون المالية ما زال يكتب قصة مجتمع يعيش على الهامش المالي ويواجه الغلاء بالقروض التي حولته إلى رهينة من المهد إلى اللحد.
سابعا: ضعف الاستثمار العمومي وتجمّد المشاريع الاستراتيجية. فمشاريع كالتكرير وإنتاج اللقاحات، التي كان يُفترض أن تمنح المغرب استقلالية استراتيجية، ظلت خارج التنفيذ. إذ لم ينجز الإصلاح الهيكلي للمؤسسات العمومية، ولم ترفع قدرتها على الإنتاج، بينما بقي المخزون الاستراتيجي للقمح متوقفا عند ثلاثة أشهر فقط رغم الإنفاق الضخم.
ثامنا :التفاوتات الجهوية. إذ تؤكد المؤشرات الاقتصادية أن ثلاث جهات تستحوذ على 58% من الناتج الداخلي الخام، بينما الجماعات الترابية تُمنح 22.5 مليار درهم فقط في 2026، مما يشير إلى أننا سنظل، خلال السنة القادمة، داخل نموذج مركزي يُعيد إنتاج اللامساواة ، كما يعيد إنتاج جدلية «المغرب النافع والمغرب غير النافع»، علما أن المغرب مقبل على تحولات مجالية وسياسية ودستورية تدعم الحكم الذاتي، مما يفرض الوصول إلى تقسيم جهوي متوازن ومتعاون على قاعدة رابح- رابح.
تاسعا: هشاشة العرض الاجتماعي في قطاعي الصحة والتعليم. فوزارة الصحة لم تستغل سوى 42% من المناصب المحدثة بين 2022 و2024، والمدارس والمستشفيات تعاني خصاصا مزمنا في الموارد البشرية، فيما الأرقام المعلنة عن التوظيف تبقى بعيدة عن الواقع. كما أن السياسة الدوائية في المغرب تعاني من فوضى كبيرة، من ارتفاع للتكلفة واعتماد شبه مطلق على الاستيراد وضعف الرقابة على الجودة وتعقيد نظام التسعير وقلة الاستثمار في البحث والتطوير المحلي واللامساواة الجغرافية في التوزيع، فضلا عن الفساد في تمرير الصفقات.
عاشرا: غياب البعد الاستراتيجي عن القانون المالي. فالنموذج التنموي الجديد، الذي وُصف بأنه «أفق المغرب2035»، بقي حبرا على ورق. ذلك أن معدل الخصوبة يتراجع إلى 1.97 طفل لكل امرأة، وهو ما يهدد التوازن الديموغرافي، كما أن المقاولات الصغرى تختنق، والسيادة الغذائية مهددة، والاستثمار الخاص جامد، والتفاوتات تتعمق، والطبقة الوسطى تتآكل، والدولة الاجتماعية معلقة.
لهذا كله، تبدو سنة 2026 لحظة اختبار حقيقي للحكومة، فإما أن تستمر في تسويق العجز على أنه «إنجاز تاريخي غير مسبوق في تاريخ المغرب المستقل»، و إما أن تحول الدولة الاجتماعية، وهو الشعار الذي ما زالت ترفعه في كل مناسبة، إلى بنية مالية حقيقية تنعكس آثارها على الخدمات العمومية والكرامة الاقتصادية للمواطنين والمجالات الترابية المعطوبة. ومن ذلك أن تجعل النقاش حول قانون المالية نقاشا حول معنى الدولة ذاتها ومدى قدرتها على أن تكون في صف مجتمعها، لا حول أرقام بكماء تكاد لا تتكلم مع أحد.
تفاصيل أوفي تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الان"